.مدخل:
1- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول- وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه-: «إن الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى ألا وأن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب وهو أصل كبير في الورع وتارك المتشابهات في الدين.
والشبهات لها مثارات:
منها: الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام: «لا يعلمهن كثير من الناس» إشارة إلى هذا المثار مع أنه يحمل أن يراد: لا يعلم عينها وإن علم حكم أصلها في التحليل والتحريم وهذا أيضا من مثار الشبهات.
وقوله عليه السلام: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه» أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة وصنفوا فيها تصانيف وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال: إن كان هذا الشيء مباحا- والمباح ما استوى طرفاه- فلا ورع فيه لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال وجمع بين المتناقضين وبنى على ذلك تصنيفا.
والجواب عن هذا عندي من وجهين:
أحدهما: أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المناخ المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول وقال: إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى فإن المباح قد صار منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين فلا يدل اللفظ على التساوي إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه.
الثاني: أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان.
وعلى الجملة: فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة وإلا فيعسر ترجيح تركه إلا أن يقال: إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا وبه يشعر لفظ الحديث.
وقوله عليه السلام: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» يحتمل وجهين.
أحدهما: أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه أثر ذلك استهانة في نفسه توقعه في الحرام مع العلم به.
والثاني: أنه إذا تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر فمنع من تعاطي الشبهات لذلك.
وقوله عليه السلام: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» من باب التمثيل والتشبيه و«يوشك» بكسر الشين بمعنى يقرب و«الحمى» المحمي أطلق المصدر على اسم المفعول وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا وعلى ترك المأمورات التزاما وإطلاقها على الأول أشهر.
وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ورتب الأمر فيه على المضغة والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح.
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذيها فقبله».
يقال لغبوا إذا أعيوا وأنفجت الأرنب بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء وسكون الجيم فنفج أي: أثرته فثار كأنه يقول: أثرناه وذعرناه فعدا ومر الظهران موضع معروف.
والحديث دليل على جواز أكل الأرنب فإنه إنما ينتفع ببعضها إذا ذبحت بالأكل وفيه دليل على الهدية وقبولها.
3- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه).
وفي رواية: «ونحن بالمدينة».
4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل).
ولمسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي).
يستدل بهذين الحديثين من يرى جواز أكل الخيل وهو مذهب الشافعي وغيره وكرهه مالك وأبو حنيفة واختلف أصحاب أبي حنيفة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ والصحيح عندهم أنها كراهة تحريم واعتذر بعضهم عن هذا الحديث أعني بعض الحنفية بأن قال: فعل الصحابي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون حجة إذا علمه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه شك على أنه معارض بقول بعض الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الخيل ثم إن سلم عن المعارض ولكن لا يصح التعلق به في مقابلة دلالة النص.
وهذا إشارة إلى ثلاثة أجوبة:
فأما الأول: فإنما يرد على هذه الرواية والرواية الأخرى لجابر وأما الرواية التي فيها: (و أذن في لحوم الخيل) فلا يرد عليها التعلق.
وأما الثاني: وهو المعارضة بحديث التحريم فإنما نعرفه بلفظ النهي لا بلفظ التحريم من حديث خالد بن الوليد وفي ذلك الحديث كلام ينقض به عن مقاومة هذا الحديث عند بعضهم.
وأما الثالث: فإنما أراد بدلالة الكتاب قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] ووجه الاستدلال أن الآية خرجت مخرج الامتنان بذكر النعم على ما دل عليه سياق الآيات التي في سورة النحل فذكر الله تعالى الامتنان بنعمة الركوب والزينة في الخيل والبغال والحمير وترك الامتنان بنعمة الأكل كما ذكر في الأنعام ولو كان الأكل ثابتا لما ترك الامتنان به لأن نعمة الأكل في حنسها فوق نعمة الركوب والزينة فإنه يتعلق بها البقاء بغير واسطة ولا يحسن ترك الامتنان بأعلى النعمتين وذكر الامتنان بأدناهما فدل ترك الامتنان بالأكل على المنع منه ولاسيما وقد ذكرت نعمة الأكل في نظائرها من الأنعام وهذا- وإن كان استدلالا حسنا- إلا أنه يجاب عنه من وجهين:
أحدهما: ترجيح دلالة الحديث على الإباحة على هذا الوجه من الاستدلال من حيث قوته بالنسبة إلى بلك الدلالة.
الثاني: أن يطالب بوجه الدلالة على عين التحريم فإنما يشعر بترك الأكل وترك الأكل أعم من كونه متروكا على سبيل الحرمة أو على سبيل الكراهة.
وفي الحديث دليل من حيث ظاهر اللفظ في هذه الرواية على جواز النحر للخيل.
وقوله: (و نهى النبي صلى الله عليه وسلم الخ) يستدل به من يرى تحريم الحمر الأهلية لظاهر النهي وفيه خلاف لبعض العلماء بالكراهة المغلظة وفيه احتراز عن الحمار الوحشي ودلالة على جواز أكله بطريق المفهوم.
5- عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور وربما قال: ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا).
هذه الرواية تشتمل على لفظ التحريم وهو أدل من لفظ النهي وأمره عليه السلام بإكفاء القدور محمول على أن سببه تحريم الأكل للحومها عند جماعة وقد ورد فيه علتان أخريان أحدهما: أنها أخذت قبل المقاسم والثانية: أنه لأجل كونها من جوال القرية ولكن المشهور والسابق إلى الفهم أنه لأجل التحريم فإن صحت تلك الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تعين الرجوع إليها وكفأت القدر قلبته ففرغت ما فيه.
6- عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية).
7- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله بما يريد أن يأكل (فقالوا: هو ضب يا رسول الله) فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه», قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر.
قال رضي الله عنه: المحنوذ المشوي بالرضيف: وهي الحجارة المحماة.
فيه دليل على جواز أكل الضب لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أحرام هو؟ قال: «لا» ولتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على أكله مع العلم بذلك وهو أحد الطرق الشرعية في الأحكام- أعني الفعل والقول والتقرير مع العلم-.
وفيه دليل على الإعلام بما يشك في أمره ليتضح الحل فيه فإن كان لا يمكن أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم عين ذلك الحيوان وأنه ضب فقصد الإعلام بذلك ليكونوا على يقين من إباحته إن أكله أو أقر عليه.
وفيه دليل على أن ليس مطلق النفرة وعدم الاستطابة دليلا على التحريم بل أمر مخصوص من ذلك إن قيل: إن ذلك من أسباب التحريم أعني الاستخباث كما يقول الشافعي.
8- عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد.
فيه دليل على إباحة أكل الجراد ولم يتعرض في الحديث لكونها ذكيت بذكاة مثلها كما يقوله المالكية من أنه لابد من سبب يقتضي موتها كقطع رؤوسها مثلا فلا يدل على اشتراط ذلك ولا على عدم اشتراطه فإنه لا صيغة للعموم ولا بيان لكيفية أكلهم.
9- عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: (كنا عند أبي موسى الأشعري فدعا بمائدة وعليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فتلكأ فقال: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه).
زهدم: بفتح الزاي والدال المهملة وسكون الهاء بينهما ومضرب بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة المشددة والجرمي بفتح الجيم وسكون الراء المهملة.
وفي الحديث: دليل على إباحة أكل الدجاج ودليل على البناء على الأصل فإنه قد بين برواية أخرى: أن هذا الرجل علل تأخره بأنه رآه يأكل شيئا فقذره فإما أن يكون كما قلناه في البناء على الأصل ويكون أكل الدجاج الذي يأكل القذر مكروها أو يكون ذلك دليلا على أنه لا اعتبار بأكله للنجاسة وقد جاء النهي عن لبن الجلالة وقال الفقهاء: إذا تغير لحمها بأكل النجاسة لم تؤكل.
وهلم: كلمة استدعاء والأكثر فيها: أنها تستعمل للواحد والجماعة والمذكر والمؤنث بصيغة واحدة وتلكأ أي تردد وتوقف.
10- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها».
«يلعقها» بفتح الياء متعديا إلى مفعول واحد «ويلعقها» الثاني: بضمها متعديا إلى مفعولين وقد جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات: «فإنه لا يدري في أي طعامه البركة».
وقد يعلل بأن مسحها قبل ذلك: فيه زيادة تلويث لما مسح به مع الاستغناء عنه بالريق ولكن إذا صح الحديث بالتعليل لم نعدل عنه.