1- عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني عرضت ذلك على أهلي فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق».
قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث وأفردوا التصنيف في الكلام عليه وما يتعلق بفوائده وبلغوا بها عددا كثيرا ونذكر من ذلك عيونا إن شاء الله تعالى.
والكلام عليه من وجوه:
أحدها: كاتبت فاعلت من الكتابة وهو العقد المشهور بين السيد وعبده فإما أن يكون مأخوذا من كتابة الخط لما أنه يصحب هذا العقد الكتابة له فيما بين السيد وعبده وإما أن يكون مأخوذا من معنى الإلزام كما في قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: 103] كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء والعبد ألزم نفسه الأداء للمال الذي تكاتبا عليه.
الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا.
فأما من أجاز بيعه فاستدل بهذا الحديث فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة وأما من منع فيحتاج إلى العذر عنه فمن العذر عنه ما قيل إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء أو الضعف عن الكسب فقد يحمل الحديث على ذلك.
ومن الاعتذارات أن تكون عائشة اشترت الكتابة لا الرقبة وقد استدل على ذلك بقولها في بعض الروايات: «فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك» فإنه يشعر بأن المشتري هو الكتابة لا الرقبة ومن فرق بين شرائه للعتق وغيره فلا إشكال عنده لأنه يقول أنا أجيز بيعه للعتق والحديث موافق لما أقول.
الثالث: بيع العبد بشرط العتق اختلفوا فيه وللشافعي قولان:
أحدهما: أنه باطل كما لو باعه بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه وهو باطل.
والثاني: وهو الصحيح: أن العقد صحيح لهذا الحديث.
ومن منع بيع العبد بشرط العتق فقد قيل إنه يمنع كون عائشة مشترية للرقبة ويحمل على قضاء الكتابة عن بريرة أو على شراء الكتابة خاصة والأول ضعيف مخالف للفظ الوارد في بعض الروايات وهو قوله عليه السلام: «ابتاعي» وأما الثاني: فإنه محتاج فيه إلى أن يكون قد قيل بمنع البيع بشرط العتق مع جواز بيع الكتابة ويكون قد ذهب إلى الجمع بين هذين ذاهب واحد معين وهذا يستمد من مسألة إحداث القول الثالث.
الرابع: إذا قلنا بصحة البيع بشرط العتق فهل يصح الشرط أو يفسد؟ فيه قولان للشافعي أصحهما: أن الشرط يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر إلا اشتراط الولاء والعقد تضمن أمرين اشتراط العتق واشتراط الولاء ولم يقع الإنكار إلا للثاني فيبقى الأول مقررا عليه ويؤخذ من لفظ الحديث فإن قوله: «اشترطي لهم الولاء» من ضرورة اشتراط العتق فيكون من لوازم اللفظ لا من مجرد التقرير ومعنى صحة الشرط أنه يلزم الوفاء به من جهة المشتري فإن امتنع فهل يجبر عليه أم لا؟ فيه اختلاف بين أصحاب الشافعي وإذا قلنا لا يجبر أثبتنا الخيار للبائع.
الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف وظاهر الحديث أنه لا يفسده لما قال فيه: «واشترطي لهم الولاء» ولا يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عقد باطل وإذا قلنا إنه صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث وسياقه وموافق للقياس أيضا من وجه وهو أن القياس يقتضي أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب والولاء من آثار العتق فيختص بمن صدر منه العتق وهو المعتق وهذا.
التمسك والتوجيه في حصة البيع والشرط يتعلق بالكلام على معنى قوله: «واشترطي لهم الولاء» وسيأتي.
السادس: الكلام على الإشكال العظيم في هذا الحديث وهو أن يقال: كيف يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن حتى يقع البيع على هذا الشرط فيدخل البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟.
فاختلف الناس في الكلام على هذا الإشكال فمنهم من صعب عليه فأنكر هذه اللفظة أعني قوله: «واشترطي لهم الولاء» وقد نقل ذلك عن يحيى بن أكثم وبلغني عن الشافعي قريب منه وأنه قال: اشتراط الولاء رواه هشام بن عروة عن أبيه وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواته أثبت من هشام والأكثرون على إثبات اللفظة للثقة براويها واختلفوا في التأويل والتخريج وذكر فيه وجوه.
أحدها: أن لهم بمعنى عليهم واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: {لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] بمعنى عليهم: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7] بمعنى عليها وفي هذا ضعف.
أما أولا: فلأن سياق الحديث وكثيرا من ألفاظه ينفيه وأما ثانيا: فلأن اللام لا تدل بوضعها على الاختصاص النافع بل تدل على مطلق الاختصاص فقد يكون في اللفظ ما يدل على الاختصاص النافع وقد لا يكون.
وثانيهما: ما فهمته من كلام بعض المتأخرين وتلخيصه أن يكون هذا الاشتراط بمعنى ترك المخالفة لما شرطه البائعون وعدم إظهاره النزاع فيما دعوا إليه وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة والتجويز؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] وليس المراد بالإذن هاهنا إباحة الله تعالى للإضرار بالسحر ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار أطلق عليه لفظة الإذن مجازا وهذا وإن كان محتملا إلا أنه خارج عن الحقيقة من غير دلالة ظاهرة على المجاز من حيث اللفظ.
وثالثهما: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منها تدل على الإعلام والإظهار ومنه أشراط الساعة والشرط اللغوي والشرعي ومنه قول أويس بن حجر بفتح الحاء والجيم «فأشرط فيها نفسه» أي أعلمها وأظهرها وإذا كان كذلك فيحمل «اشترطي» على معنى: أظهري حكم الولاء وبينيه واعلمي أنه لمن أعتق على عكس ما أورده السائل وفهمه من الحديث.
ورابعها: ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أخبرهم: «أن الولاء لمن أعتق» ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل لمخالفتهم الحكم الشرعي وغاية ما في الباب: إخراج لفظة الأمر عن ظاهرها وقد وردت خارجة عن ظاهرها في مواضع يمتنع إجراؤها على ظاهرها كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وعلى هذا الوجه والتقدير الذي ذكر لا يبقى غرور.
وخامسها: أن يكون إبطال هذا الشرط عقوبة لمخالفتهم حكم الشرع فإن إبطال الشرط يقتضي تغريم ما قوبل به الشرط من المالية المسامح بها لأجل الشرط ويكون هذا من باب العقوبة بالمال كحرمان القاتل الميراث.
وسادسها: أن يكون ذلك خاصا بهذه القضية لا عاما في سائر الصور ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط: المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج وهذا الوجه ذكره بعض أصحاب الشافعي وجعله بعض المتأخرين منهم الأصح في تأويل الحديث.
الوجه السابع: من الكلام على الحديث يدل على أن كلمة «إنما» للحصر لأنها لو لم تكن للحصر لما لزم من إثبات الولاء لمن أعتق نفيه عمن لم يعتق لكن هذه الكلمة ذكرت في الحديث لبيان نفيه عمن لم يعتق فدل على أن مقتضاها الحصر.
الوجه الثامن: لا خلاف في ثبوت الولاء للمعتق عن نفسه بالحديث المذكور واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له وهو المسمى بالسائبة ومذهب الشافعي بطلان هذا الشرط وثبوت الولاء للمعتق والحديث يتمسك به في ذلك.
الوجه التاسع: قالوا: يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق كالكتابة والتعليق بالصفة وغير ذلك.
الوجه العاشر: يقتضي حصر الولاء للمعتق ويستلزم حصر السببية في العتق فيقتضي ذلك أن لا ولاء بالحلف ولا بالموالاة ولا بإسلام الرجل على يد الرجل ولا بالتقاطه للقيط وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء ومذهب الشافعي أن لا ولاء في شيء منها للحديث.
الحادي عشر: الحديث دليل على جواز الكتابة وجواز كتابة الأمة المزوجة.
الثاني عشر: فيه دليل على تنجيم الكتابة لقولها: (كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية) وليس فيه تعرض للكتابة الحالة فيتكلم عليه.
الثالث عشر: قوله عليه السلام: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟» يحتمل أن يريد بكتاب الله حكم الله أو يراد بذلك نفي كونها في كتاب الله بواسطة أو بغير واسطة فإن الشريعة كلها في كتاب الله إما بغير واسطة كالمنصوصات في القرآن من الأحكام وإما بواسطة قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] و{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «قضاء الله أحق» أي بالاتباع من الشروط المخالفة لحكم الشرع و(شرط الله أوثق) أي باتباع حدوده وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع الغير المتكلف.
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه كان يسير على جمل فأعيى فأراد أن يسيبه فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله ثم قال: «بعنيه بأوقية» قلت: لا, ثم قال: «بعنيه» فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في إثري فقال: «أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك».
في الحديث علم من أعلام النبوة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بيعه واستثناء حملانه إلى المدينة فقد أجاز مالك مثله في المدة اليسيرة وظاهر مذهب الشافعي المنع وقيل: بالجواز تفريعا على جواز بيع الدار المستأجرة فإن المنفعة تكون مستثناه ومذهب الشافعي الأول والذي يعتذر به عن الحديث على هذا المذهب أن لا يجعل استثناؤه على حقيقة الشرط في العقد بل على سبيل تبرع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجمل عليه أو يكون الشرط سابقا على العقد والشروط المفسدة ما تكون مقارنة للعقد وممزوجة به على ظاهر مذهب الشافعي وقد أشار بعض الناس إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ الحديث مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب فإن بعض الألفاظ صريح في الاشتراط وبعضها لا فيقول: إذا اختلفت الروايات وكانت الحجة ببعضها دون بعض توقف الاحتجاج.
فنقول: هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها إما لأن رواته أكثر أو أحفظ فينبغي العمل بها إذ الأضعف لا يكون مانعا من العمل بالأقوى والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح فتمسك بهذا الأصل فإنه نافع في مواضع عديدة.
منها: أن المحدثين يعللون الحديث بالاضطراب ويجمعون الروايات العديدة فيقوم في الذهن منها صورة توجب التضعيف والواجب أن ينظر إلى تلك الطرق فما كان منها ضعيفا.
اسقط عن درجة الاعتبار ولم يجعل مانعا من التمسك بالصحيح القوي ولتمام هذا موضع آخر ومذهب مالك وإن قال بظاهر الحديث فهو يخصصه باستثناء الزمن اليسير وربما قيل: إنه ورد ما يقتضي ذلك.
وقد يؤخذ من الحديث جواز بيع الدار المستأجرة بأن يجعل هذا الاستثناء المذكور في الحديث أصلا ويجعل بيع الدار المستأجرة مساويا له في المعنى فيثبت الحكم إلا أن في كون مثل هذا معدودا فيما يؤخذ من الحديث وفائدة من فوائده نظرا.
3- عن أبي هريرة رضي لله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها).
أما النهي عن بيع الحاضر للبادي والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه: فقد مر الكلام عليه.
وأما النهي عن الخطبة فقد تصرف في إطلاقه الفقهاء بوجهين.
أحدهما: أنهم خصوه بحالة التراكن والتوافق بين الخاطب والمخطوب إليه وتصدى نظرهم بعد ذلك فيما به يحصل تحريم الخطبة وذكروا أمورا لا تستنبط من الحديث وأما الخطبة قبل التراكن فلا تمتنع نظرا إلى المعنى الذي لأجله حرمت الخطبة وهو وقوع العداوة والبغضاء وإيحاش النفوس.
الوجه الثاني: وهو للمالكية أن ذلك في المتقاربين أما إذا كان الخاطب الأول فاسقا والآخر صالحا فلا تندرج تحت النهي ومذهب الشافعي رحمه الله: أنه إذا ارتكب النهي وخطب على خطبة أخيه لم يفسد العقد ولم يفسخ لأن النهي مجانب لأجل وقوع العداوة والبغضاء وذلك لا يعود على أركان العقد وشروطه بالاختلال ومثل هذا لا يقتضي فساد العقد.
وأما نهي المرأة عن سؤال طلاق أختها فقد استعمل فيه ألفاظ مجازية فجعل طلاق المرأة بعقد النكاح بمثابة تفريغ الصحفة بعد امتلائها وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى الرزق لما يوجبه النكاح من النفقة فإن الصحفة وملأها من باب الأرزاق وكفاؤها قلبها.