1- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية: أن يبيعها بخرصها).
ولمسلم: «بخرصها تمرا يأكلونها رطبا».
اختلفوا في تفسير العرية المرخص فيها فعند الشافعي: هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصا فيما دون خمسة أوسق وعند مالك صورته: أن يعري الرجل- أي يهب- ثمرة نخلة أو نخلات ثم يتضرر بمداخلة الموهوب له فيشتريها منه بخصرها تمرا ولا يجوز ذلك لغير رب البستان ويشهد لهذا التأويل أمران:
أحدهما: أن العرية مشهورة بين أهل المدينة متداولة فيما بينهم وقد نقلها مالك هكذا.
والثاني: قوله لصاحب العربية فإنه يشعر باختصاصه بصفة يتميز بها عن غيره وهي الهبة الواقعة وأنشدوا في تفسير العرايا بالهبة قول الشاعر:
وليست بسنهاء ولا رجبية ** ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقوله في الحديث بخرصها في هذه الرواية تقيد بغيرها وهو بيعها بخرصها تمرا.
وقد يستدل بإطلاق هذه الرواية لمن يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على النخل خرصا فيهما وبالرطب على وجه الأرض كيلا وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي والأصح: المنع لأن الرخصة وردت للحاجة إلى تحصيل الرطب وهذه الحاجة لا توجد في حق صاحب الرطب وفيه وجه ثالث: أنه اختلف النوعان جاز لأنه قد يزيد ذلك النوع وإلا فلا ولو باع رطبا على وجه الأرض برطب على وجه الأرض: لم يجز وجها واحدا لأن أحد المعاني في الرخصة أن يأكل الرطب على التدريج طريا وهذا المقصود لا يحصل فيما على وجه الأرض وقد يستدل بإطلاق الحديث من لا يرى اختصاص جواز بيع العرايا لمحاويج الناس.
وفي مذهب الشافعي وجه: أنه يختص بهم لحديث ورد عن زيد بن ثابت فيه: أنه سمى رجلا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا ويأكلونه مع الناس وعندهم فضول قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق».
أما تجويز بيع العرايا: فقد تقدم وأما حديث أبي هريرة: فإنه زاد فيه بيان مقدار ما تجوز فيه الرخصة وهو ما دون الخمسة أوسق.
ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وأنه يجوز فيما دونها وفي خمسة الأوسق قولان والقدر الجائز: إنما يعتبر بالصفقة إن كانت واحدة: اعتبرنا ما زاد على الخمسة فمنعنا وما دونها فأجزنا أما لو كانت صفقات متعددة: فلا منع ولو باع في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز: جاز ولو باع رجلان من واحد: فكذلك الحكم في اصح الوجهين لأن تعدد الصفقة بتعدد البائع أظهر من تعددها بتعدد المشتري.
وفيه وجه آخر أنه لا تجوز الزيادة على خمسة أوسق في هذه الصورة نظرا إلى مشتري.
الرطب لأنه محل الرخصة الخارجة عن قياس الربويات فلا ينبغي أن يدخل في ملكه فوق القدر المجوز دفعة واحدة.
واعلم أن الظاهر من الحديث: أن يحمل على صفقة واحدة من غير نظر إلى تعدد بائع ومشتر جريا على العادة والغالب.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع».
ولمسلم: «ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع».
يقال: أبرت النخلة ابرها وقد يقال بالتشديد والتأبير هو التلقيح وهو أن يشقق أكمه إناث النخل ويذر طلع الذكر فيها ولا يلقح جميع النخيل بل يؤبر البعض ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل منه تشقق الطلع وإذا باع الشجرة بعد التأبير فالثمرة للبائع في صورة الإطلاق وقيل: إن بعضهم خالف في هذا وقال تبقى الثمار للبائع أبرت أو لم تؤبر وأما إذا اشترطاها للبائع أو للمشتري: فالشرط متبع.
وقوله: «من باع نخلا قد أبرت» حقيقته: اعتبار التأبير في المبيع حقيقة بنفسه وقد أجرى تأبير البعض مجرى تأبير الجميع إذا كان في بستان واحد واتحد النوع وباعها صفقة واحدة وجعل ذلك كالنخلة الواحدة وإن اختلف النوع ففيه وجهان لأصحاب الشافعي وقيل: إن الأصح أن الكل يبقى للبائع كما لو اتحد النوع دفعا لضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
وقد يؤخذ من الحديث: أنه إذا باع ما لم يؤبر مفردا بالعقد بعد تأبيره غيره في البستان: أنه يكون للمشتري لأنه ليس في المبيع شيء مؤبر فيقتضي مفهوم الحديث: أنها ليست للبائع وهذا أصح وجهي الشافعية وكأنه إنما يعتبر عدم التأبير إذا بيع مع المؤبر فيجعل تبعا وفي هذه الصورة ليس هاهنا في المبيع شيئ مؤبر فيجعل غيره تبعا له.
وأدخل من هذه الصورة في الحديث ما إذا كان التأبير وعدمه في بستانين مختلفين والأصح هاهنا أن كل واحد منهما ينفرد بحكمه.
أما أولا: فلظاهر الحديث.
وأما ثانيا: فلأن لاختلاف البقاع تأثيرا في التأبير ولأن في البستان الواحد يلزم ضرر اختلاف الأيدي وسوء المشاركة.
وقوله: «من ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» يستدل به المالكية على أن العبد يملك لإضافة المال إليه باللام وهي ظاهرة في الملك.
4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وفي لفظ: «حتى يقبضه» وعن ابن عباس مثله.
هذا نص في منع بيع الطعام قبل أن يستوفى ومالك خصص الحكم به إذا كان فيه حق التوفية على ما دل عليه الحديث ولا يختص ذلك عند الشافعي بالطعام بل جمي المبيعات لا يجوز بيعها قبل قبضها عنده سواء كانت عقارا أو غيره وأبو حنيفة يجيز بيع العقار قبل القبض ويمنع غيره.
وهذا الحديث يقتضي أمرين:
أحدهما أن تكون صورة المنع فيما إذا كان الطعام مملوكا بجهة البيع.
والثاني: أن يكون الممنوع هو البيع قبل القبض.
أما الأول: فقد أخرج عنه ما إذا كان مملوكا بجهة الهبة أو الصدقة مثلا.
وأما الثاني: فقد تكلم أصحاب الشافعي في جواز التصرف بعقود غير البيع منها: العتق قبل القبض والأصح: أنه ينفذ إذ لم يكن للبائع حق الحبس بأن أدى المشتري الثمن أو كان مؤجلا فإن كان له حق الحبس فقيل: هو كعتق الراهن وقيل: لا والصحيح: أنه لا فرق.
وكذا اختلفوا في الهبة والرهن قبل القبض والأصح عند أصحاب الشافعي: المنع وكذلك في التزويج خلاف والأصح عند أصحاب الشافعي: خلافه ولا يجوز عندهم التولية والشركة وأجازهما مالك مع الإقالة ولا شك أن الشركة والتولية بيع فيدخلان تحت الحديث وإنما استثنى ذلك مالك على خلاف القياس وقد ذكر أصحابه فيها حديثا يقتضي الرخصة الله أعلم.
5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يارسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: «لا هو حرام», ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» قال جملوه أذابوه.
أخذ من تحريم بيع الخمر والميتة: نجاستهما لأن الانتفاع بهما لم يعدم فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح.
وأما بيع الأصنام: فلعدم الانتفاع بها على صورتها وعدم الانتفاع يمنع صحة البيع وقد يكون منع بيعها مبالغة في التنفير عنها.
وأما قولهم: «أرأيت شحوم الميتة..» الخ فقد استدل به على منع الاستصباح بها وإطلاء السفن بقوله عليه السلام لما سئل عن ذلك؟ قال: «لا هو حرام» وفي هذا الاستدلال احتمال لأن لفظ الحديث ليس فيه تصريح فإنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تحريم بيع الميتة قالوا له: (أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن) الخ قصدا منهم لأن هذه المنافع تقتضي جواز البيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هو حرام» ويعود الضمير في قوله هو على البيع كأنه أعاد تحريم البيع بعدما بين له فيه منفعة إهدارا لتلك المصالح والمنافع التي ذكرت.
وقوله عليه السلام: «قاتل الله اليهود...» الخ تنبيه على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء فإن العلة تحريمها فإن وجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم استدل المالكية بهذا على تحريم الذرائع من حيث إن اليهود توجه عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل وأكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه لكنه لما كان تسببا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم به.