1- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن المنابذة- وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه- ونهى عن الملامسة والملامسة: لمس الثوب ولا ينظر إليه».
اتفق الناس على منع هذين البيعين واختلفوا في تفسير الملامسة فقيل: هي أن يجعل اللمس بيعا بأن يقول: إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا وكذا وهذا باطل للتعليق في الصيغة وعدوله عن الصيغة الموضوعة للبيع شرعا وقد قيل: هذا من صور المعاطاة وقيل: تفسيرها أن يبيعه على أنه إذا لمس الثوب فقد وجب البيع وانقطع الخيار وهو أيضا فاسد بالشرط الفاسد وفسره الشافعي رحمه الله: بأن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه الراغب ويقول صاحب الثوب: بعتك هذا بشرط أن يقوم لمسك مقام النظر وهذا فاسد إن أبطلنا بيع الغائب وكذا إن صححناه لإقامة اللمس مقام النظر وقيل يتخرج على نفي شرط الخيار.
وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف فإنه يقتضي أن جهة الفساد: عدم النظر والتقليب وقد يستدل به من يمنع بيع الأعيان الغائبة عملا بالعلة ومن يشترط الوصف في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلا عليه لأنه هاهنا لم يذكر وصفا.
وأما المنابذة فقد ذكر في الحديث: «أنها طرح الرجل ثوبه لا ينظر إليه» والكلام في هذا التعليل كما تقدم.
واعلم أن في كلا الموضعين يحتاج إلى الفرق بين المعاطاة وبين هاتين الصورتين فإذا علل بعدم الرؤية المشروطة: فالفرق ظاهر وإذا فسر بأمر لا يعود إلى ذلك: احتيج حينئذ إلى الفرق بينه وبين مسألة المعاطاة عند من يجيزها.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولاتصروا الغنم ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» وفي لفظ: «هو بالخيار ثلاثا».
تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يتعلق به من الضرر وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعا فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار.
والكلام فيه في ثلاثة مواضع:
أحدها: التحريم فإن كان عالما بالنهي قاصدا للتلقي: فهو حرام وإن خرج لشغل آخر فرآهم مقبلين فاشتري: ففي إثمه وجهان للشافعية أظهرهما: التأثيم.
الموضوع الثاني: صحة البيع أو فساده وهو عند الشافعي: صحيح وإن كان آثما وعند غيره من العلماء: يبطل ومستنده: أن النهي للفساد ومستند الشافعي: أن النهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخل هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه وإنما هو لأجل الإضرار بالركبان وذلك لا يقدح في نفس البيع.
الموضع: الثالث: إثبات الخيار فحيث لا غرور للركبان بحيث يكونون عالمين بالسعر فلا خيار وإن لم يكونوا كذلك فان اشترى منهم بأرخص من السعر فلهم الخيار وما في لفظ بعض المصنفين من: «أنه يخبرهم بالسعر كاذبا» ليس بشرط في إثبات الخيار وإن اشترى منهم بمثل سعر البلد أو أكثر ففي ثبوت الخيار لهم وجهان للشافعية منهم من نظر إلى لفظ حديث ورد بإثبات الخيار لهم فجرى على ظاهره ولم يلتفت إلى المعنى وإذا أثبتنا الخيار: فهل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي والأظهر: الأول.
وأما قوله: «ولا يبع بعضكم على بيع بعض» فقد فسر في مذهب الشافعي بأن يشتري شيئا فيدعوه غيره إلى الفسخ ليبيعه خيرا منه بأرخص وفي معناه: الشراء على الشراء وهو أن يدعوا البائع إلى الفسخ ليشتريه منه بأكثر وهاتان الصورتان إنما تتصوران فيما إذا كان البيع في حالة الجواز وقبل اللزوم وتصرف بعض الفقهاء في هذا النهي وخصصه بما إذا لم يكن في الصورة غبن فاحش فإن كان المشتري مغبونا فيدعوه إلى الفسخ ويشتريه منه أكثر.
ومن الفقهاء من فسر البيع على البائع بالسوم على السوم وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول له إنسان رده لأبيع منك خيرا منه وأرخص أو يقول لصاحبه: استرده لأشتريه منك بأكثر وللتحريم في ذلك عند أصحاب الشافعي شرطان:
أحدهما: استقرار الثمن فأما من يباع فيمن يزيد: فللطالب أن يزيد على الطالب ويدخل عليه.
والثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحا فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح: فوجهان وليس السكوت بمجرده من دلائل الرضا عند الأكثرين منهم.
وأما قوله: «ولا تناجشوا» فهو من المنهيات لأجل الضرر وهو أن يزيد في سلعة تباع ليغر غيره وهو راغب فيها واختلف في اشتقاق اللفظة فقيل: إنها مأخوذة من معنى الإثارة كأن الناجش يثير همة من يسمعه للزيادة وكأنه مأخوذ من إثارة الوحش من مكان إلى مكان وقيل: أصل اللفظة: مدح الشيء وإطراؤه ولا شك أن هذا الفعل حرام لما فيه من الخديعة وقال بعض الفقهاء: بأن البيع باطل ومذهب الشافعي: أن البيع صحيح وأما إثبات الخيار للمشتري الذي غر بالنجش: فإن لم يكن النجش عن مواطاة من البائع فلا خيار عند أصحاب الشافعي.
وأما: «بيع الحاضر للبادي» فمن البيوع المنهي عنها لأجل الضرر أيضا وصورته: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد وحرام إن علم بالنهي وتصرف بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي في ذلك فقالوا: شرطه أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فإن لم يظهر- لكثرته في البلد أو لقلة الطعام المجلوب-: ففي التحريم وجهان ينظر في أحدهما: إلى ظاهر اللفظ وفي الآخر: إلى المعنى وعدم الإضرار وتفويت الربح أو الرزق على الناس وهذا المعنى منتف وقالوا أيضا: يشترط أن يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه دون ما لا يحتاج إليه إلا نادرا وأن يدعوا البلدي البدوي إلى ذلك فإن التمسه البدوي منه فلا بأس ولو استشاره البدوي فهل يرشده إلى الادخار والبيع على التدريج؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي.
واعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسين وحيث يخفى ولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك: فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي وعدمه ظاهرا.
وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه: فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فكذلك أيضا أي إنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد.
وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه ومنها مايؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط.
وقوله: «ولا تصروا الغنم» فيه مسائل:
الأول: الصحيح في ضبط هذه اللفظة: ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن تزكوا مأخوذ من صرى يصري ومعنى اللفظة: يرجع إلى الجمع تقول: صريت الماء في الحوض وصريته- بالتخفيف والتشديد- إذا جمعته و«الغنم» منصوبة بالميم على هذا ومنهم من رواه «لا تصروا»- بفتح التاء وضم الصاد- من صر يصر إذا ربط. المصراة: هي التي تربط أخلافها ليجتمع اللبن والغنم على هذا: منصوبة الميم أيضا وأما ما حكاه بعضهم- من ضم التاء وفتح الصاد وضم ميم الغنم على ما لم يسم فاعله- فهذا لا يصلح مع اتصال ضمير الفاعل وإنما يصح مع إفراد الفعل ولا نعلم رواية حذف فيها هذا الضمير.
المسألة الثانية: لا خلاف أن التصرية حرام لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعا من الشرع.
المسألة الثالثة: النهي ورد عن فعل المكلف وهو ما يصدر باختياره وتعمده فترتب عليه حكم مذكور في الحديث فلو تحفلت الشاة بنفسها أو نسيها المالك بعد أن صراها لا لأجل الخديعة فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف بين أصحاب الشافعي فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناوله حالة العمد.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف «لا تصروا الغنم» وفي الصحيح: «الإبل والغنم» وهذا هو محل التصرية والفقهاء تصرفوا وتكلموا فيما يثبت فيه هذا الحكم من الحيوان ولم يختلف أصحاب الشافعي أنه لا يختص بالإبل والغنم المذكورين في الحديث ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من عداه إلى النعم خاصة ومنهم من عداه إلى كل حيوان مأكول اللحم وهذا نظر إلى المعنى فإن المأكول اللحم يقصد لبنه فتفويت المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة موجب للخيار فلو حفل أتانا ففي ثبوت الخيار وجهان لهم من حيث إنه غير مقصود لشرب الآدمي إلا أنه مقصود لتربية الجحش وإذا اعتبر المعنى فلا ينبغي أن يصح هذا الوجه لأن إثبات الخيار يعتمد فوات أمر مقصود ولا يختص ذلك بأمر معين أعني الشرب مثلا.
وكذلك اختلفوا في الجارية من الآدميات لو حفلها وإذا أثبت الخيار في الأتان فالظاهر: أنه لا يرد لأجل لبنها شيئا ومن هذا يتبين لك: أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث أعني الإبل والغنم لأن شرط القياس: اتحاد الحكم فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف أيضا.
المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: «بعد أن يحلبها» مطلق في الحلبات لكن قد تقيد في رواية أخرى إثبات الخيار: «بثلاثة أيام» واتفق أصحاب مالك على أنه إذا حلبها ثانية وأراد الرد: أن له ذلك واختلفوا إذا حلبها الثالثة هل يكون رضي بمنع الرد ورجحوا أن لا يمنع لوجهين.
أحدهما: الحديث.
والثاني: أن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات فإن الحلبة الثانية إذا انقصت من الأولى: جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى أو لأمر غير التصرية فإذا حلبها الثالثة تحقق التصرية وإذا كانت لفظة حلبها مطلقة فلا دلالة لها على الحلبة الثانية والثالثة وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر.
المسألة السادسة: قوله: «وإن سخطها ردها» يقتضي إثبات الخيار بعيب التصرية واختلف أصحاب الشافعي: هل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فقيل: يمتد للحديث وقيل: يكون على الفور طردا لقياس خيار الرد بالعيب ويتؤول الحديث والصواب: اتباع النص لوجهين:
أحدهما: تقديم النص على القياس.
والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده.
المسألة السابعة: يقتضي الحديث: رد شيء معها عندما يختار ردها وفي كلام بعض المالكية: ما يدل على خلافه من حيث إن الخراج بالضمان ومعناه: أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته تكون له بضمانه فاللبن المحلوب إذا فات غلة فلتكن للمشتري ولا يرد لها بدلا والصواب: الرد للحديث على ما قررناه.
المسألة الثامنة: الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه ويلزم منه عدم رد اللبن والشافعية قالوا: إن كان اللبن باقيا فأراد رده على البائع فهل يلزمه قبوله؟ وجهان:
أحدهما: نعم لأنه أقرب إلى مستحقه.
والثاني: لا لأن طراوته ذهبت فلا يلزمه قبوله واتباع لفظ الحديث أولى في أن يتعين الرد فيما نص عليه.
أما المالكية: فقد زادوا على هذا وقالوا: لو رضي به البائع فهل يجوز ذلك أم لا قولان ووجهوا المنع: بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث.
فباعه قبل قبضه باللبن ووجهوا الجواز: بأن يكون بناء على عادتهم في اتباع المعاني دون اعتبار الألفاظ.
المسألة التاسعة: الحديث يقتضي تعيين جنس المردود في التمر فمنهم من ذهب إلى ذلك وهو الصواب ومنهم من عداه إلى سائر الأقوات ومنهم من اعتبر في ذلك غالب قوت البلد وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صاعا من تمر لا سمراء» وذلك رد على من عداه إلى سائر الأقوات وإن كان السمراء غالب قو البلد- أعني المدينة- فهو رد على قائله أيضا.
المسألة العاشرة: الحديث يدل على تعيين المقدار في الصاع مطلقا وفي مذهب الشافعي وجهان:
أحدهما: ذلك وأن الواجب الصاع قل اللبن أو كثر لظاهر الحديث.
والثاني: أنه يتقدر اللبن اتباعا لقياس الغرامات وهو ضعيف.
المسألة الحادية عشرة: قوله عليه السلام: «فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها» وقد يقال هاهنا سؤال وهو أن الحديث يقتضي إثبات الخيار بعد الحلب أو الخيار ثابت قبل الحلب إذا علمت التصرية.
وجواله: أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين أعني الإمساك والرد مع الصاع وهذا إنما يكون بعد الحلب لتوقف هذين المعنيين على الحب لأن الصاع عوض عن اللبن ومن ضرورة ذلك: الحلب.
المسألة الثانية عشرة: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث وروى عن مالك قول أيضا بعدم القول به والذي أوجب ذلك: أنه قيل حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة وما كان كذلك لا يلزم العمل به.
أما الأول- وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة- فمن وجوه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول: أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين وهاهنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانا بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع هاهنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.
الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج من القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها.
الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهبت بعض أعضاء المبيع ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حديث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.
الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط: لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من ثبته وخيار المجلس عند من يقول به.
الخامس: يلزم من القول بظاهره: الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإن استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.
السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان بالأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالغصوب وسائر المضمونات.
الثامن: قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.
وأما المقام الثاني- وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة: لم يجب العمل به- فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والمظنون لا يعارض المعلوم.
أجاب القائلون بظاهر الحديث: بالطعن في المقامين جميعا أعني أنه مخالف للأصول وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به.
أما المقام الأول- وهو أنه مخالف للأصول- فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة للأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفي هذا نظر.
وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها.
أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة وأيضا فقد يضمن المثلى بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وهاهنا تعذرت.
أما الأولى: فمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بإزلاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة.
وأما الثاني:- وهو أنه تعذرت المماثلة هاهنا- فلأن ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.
وأما الاعتراض الثاني: فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه: أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.
وأما الاعتراض الثالث: فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص: إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمنع الرد.
وأما الاعتراض الرابع: فإنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها لأن الغالب: أن هذه المدة هي التي يتبين بها لبن الخلقة المجتمع بأصل الخلفة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب.
وأما الاعتراض الخامس: فقد قيل فيه: إن الخبر وارد على العادة والعادة: أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف وقيل: إن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العضو والمعوض.
وأما الاعتراض السادس: فقد قيل في الجواب عنه: إن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقاتلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.
وأما الاعتراض السابع: فجوابه فيما قيل: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للبائع والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو عصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.
وأما الاعتراض الثامن: فقيل فيه: إن الخيار يثبت بالتدليس كما لو باع رحا دائرة بماء قد جمعه لها ولم يعلم به.
وأما المقام الثاني- وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد- فقيل فيه: إن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول: نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا: فتناول الأصل لمحل خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر من ذلك الأصل.
وعندي: أن التمس بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول.
ومن الناس من سلك طريقة أخرى في الاعتذار عن الحديث وهي ادعاء النسخ وأنه يجوز أن يكون ذلك من حيث كانت العقوبة بالمال جائزة وهو ضعيف فإنه إثبات نسخ بالاحتمال والتقدير وهو غير سائغ ومنهم من قال: يحمل الحديث على ما إذا اشترى شاة بشرط أنها تحلب خمسة أرطال مثلا وشرط الخيار فالشرط باطل فاسد فإن اتفقا على إسقاطه في مدة الخيار صح العقد وإن لم يتفقا بطل وأما رد الصاع: فلأنه كان قيمة اللبن في ذلك الوقت.
وأجيب عنه: بأن الحديث يقتضي تعليق الحكم بالتصرية وما ذكر يقتضي تعليقه بفساد الشرط سواء أحدث التصرية أم لا.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها.
قيل: إنه كان يبيع الشارف- وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته».
في تفسير حبل الحبلة وجهان:
أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع ثم يحمل هذا البطن الثاني وهذا باطل لأنه يبيع إلى أجل مجهول.
والثاني: أن يبيع نتاج النتاج وهو باطل أيضا لأنه بيع معدوم وهذا البيع كانت الجاهلية تتبايعه فأبطله الشارع للمفسدة المتعلقة به وهو ما بيناه من أحد الوجهين وكأن السر فيه: أنه يفضي إلى أكل المال بالباطل أو إلى التشاجر والتنازع المتنافي للمصلحة الكلية.
4- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول صلى الله عليه وسم: «نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع».
أكثر الأمة على أن هذا النهي: نهي تحريم والفقهاء أخرجوا من هذا العموم: بيعها بشرط القطع واختلفوا في بيعها مطلقا من غير شرط ولا إبقاء ولمن يمنعه أن يستدل بهذا الحديث فإنه إذا خرج من عمومه بيعها بشرط القطع يدخل باقي صور البيع تحت النهي ومن جملة صور البيع: بيع الإطلاع وممن قال بالمنع فيه: مالك والشافعي.
وقوله: «نهى البائع والمشتري» تأكيد لما فيه من بيان أن البيع- وإن كان لمصلحة الإنسان- فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة ألا ترى أن هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة للعاهات فإذا طرأ عليها شيء منها حصل الإجحاف بالمشتري في الثمن لأذي بذله ومع هذا: فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع النزاع والتخاصم ومثل هذا في المعنى: حديث أنس الذي بعده.
5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الثمار حتى تزهي» قيل: وما تزهي؟ قال«حتى تحمر», قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟».
والإزهاء: تغير لون الثمرة في حالة الطيب والعلة- والله أعلم- ما ذكرناه من تعرضها للجوائح قبل الإزهاء وقد أشار في هذه الرواية بقوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يستحل أحدكم مال أخيه؟» والحديث يدل على أنه يكتفى بمسمى الإزهاء وابتدائه من غير اشتراط تكامله لأنه جعل مسمى الإزهاء غاية للنهي وبأوله يحصل المسمى ويحتمل أن يستدل به على العكس لأن الثمرة المبيعة قبل الإزهاء- أعني ما لم يزه من الحائط- إذا دخل تحت اسم الثمرة فيمتنع بيعه قبل الإزهاء فإن قال بهذا أحد فله أن يستدل بذلك.
وفيه دليل على أن زهو بعض الثمرة كاف في جواز البيع من حيث إنه ينطلق عليها أنها أزهت بعضها مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة غالبا ولولا وجود المعنى كان تسميتها مزهية بإزهاء بعضها: قد لا يكتفي به لكونه مجازا وقد يستدل بقوله عليه السلام: «أرأيت إن منع الله الثمرة بما يأخذ أحدكم مال أخي؟» على وضع الجوائح كما جاء في حديث آخر.
6- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا.
وقد تقدم الكلام في النهي عن تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتفسيرهما والذي زاد هذا الحديث: تفسير بيع الحاضر للبادي وفسر بأن يكون له سمسارا.
7- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما: أن يبيعه بزبيب كيلا أو كان زرعا: أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله.
المزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع وحقيقتها: بيع معلوم بمجهول من جنسه وقد ذكر في الحديث لها أمثلة من بيع الثمر بالتمر ومن بيع الكرم بالزبيب ومن بيع الزرع بكيل الطعام وإنما سميت مزابنة من معنى الزبن لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه.
8- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة وعن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وأن لا تباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا.
المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بحنطة.
9- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن).
اختلفوا في بيع الكلب المعلم فمن يرى نجاسة الكلب- وهو الشافعي- يمنع من بيعه مطلقا لأن على المنع قائمة في العلم وغيره ومن يرى بطهارته: اختلفوا في بيع المعلم منه لأن علة المنع غير عامة عند هؤلاء وقد ورد في بيع المعلم منه حديث في ثبوته بحث يحال على علم الحديث.
وأما مهر البغي فهو ما يعطاها على الزنا.
وسمى مهرا على سبيل المجاز أو استعمالا للوضع اللغوي ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الوضع: ما يقابل النكاح.
وحلوان الكاهن هو ما يعطاه على كهانته والإجماع قائم على تحريم هذين لما في ذلك من بذل الأعواض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض أما الزنا: فظاهر وأما الكهانة: فبطلانها وأخذ العوض عنها: من باب أكل المال بالباطل وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع من الرجم بالغيب.
10- عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث».
إطلاق الخبيث على ثمن الكلب يقتضي التعميم في كل كلب فإن ثبت تخصيص شيء منه وإلا وجب إجراؤه على ظاهره والخبيث من حيث هو: لا يدل على الحرمة صريحا ولذلك جاء في كسب الحجام أنه خبيث ولم يحمل على التحريم غير أن ذلك بدليل خارج وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم: «احتجم وأعطى الحجام أجره2 ولو كان حراما لم يعطه» فإن ثبت أن لفظة الخبث ظاهرة في الحرام فخروجها عن ذلك في كسب الحجام بدليل: لا يلزم منه خروجها في غيره بغير دليل.
وأما الكلب فإذا قيل بثبوت الحديث الذي يدل على جواز بيع كلب الصيد: كان ذلك دليلا على طهارته وليس يدل النهي عن بيعه على نجاسته لأن علة منع البيع: متعددة لا تنحصر في النجاسة.