1- عن أبي قتادة الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم- فيهم أبو قتادة- وقال: «خذوا ساحل البحر حتى نلتقي».
فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم فينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك؟ فقال: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟» قالوا: لا, قال: «فكلوا ما بقي من لحمها».
وفي رواية قال: «هل معكم منه شيء؟» فقلت: نعم, فناولته العضد فأكلها.
تكلموا في كون أبي قتادة لم يكن محرما مع كونهم خرجوا للحج ومروا بالميقات ومن كان كذلك وجب عليه الإحرام من الميقات وأجيب بوجوه:
منها وهو ضعيف أنه لم يكن مريدا للحج والعمرة.
منها: ما دل عليه أول هذا الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها وكان الالتقاء بعد مضي مكان الميقات.
ومنها: أنه قبل توقيت الميقات.
والأتان: الأنثى من الحمار وقولهم: (نأكل من لحم صيد ونحن محرمون) ورجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: دليل على أمرين:
أحدهما: جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أكلوه باجتهاد.
والثاني: وجوب الرجوع إلى النصوص عند تعارض الأشباه والاحتمالات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها» فيه دليل على أنهم لو فعلوا ذلك لكان سببا للمنع.
وقوله عليه السلام: «فكلوا ما بقي من لحمها» دليل على جواز أكل المحرم لحم الصيد إذا لم يكن من دلالة ولا إشارة وقد اختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد على مذاهب.
أحدها: أنه ممنوع مطلقا صيد لأجله أو لا وهذا مذكور عن بعض السلف ودليله: حديث الصعب على ما سنذكره.
والثاني: إنه ممنوع إن صاده أو صيد لأجله سواء كان بإذنه أو بغير إذنه وهو مذهب مالك والشافعي.
والثالث: إنه إن كان باصطياده أو بإذنه أو بدلالته حرم وإن كان على غير ذلك: لم يحرم.
وحديث أبي قتادة- هذا- يدل على جواز أكله في الجملة وهو على خلاف مذهب الأول ويدل ظاهره: على أنه إذا لم يشر المحرم إليه ولا دل عليه: يجوز أكله فإنه ذكر الموانع المانعة من أكله والظاهر: أنه لو كان غيرها مانعا لذكر.
وإنما احتج الشافعي على تحريم ما صيد لأجله مطلقا وإن لم يكن بدلالته وإذنه: بأمور أخرى منها: حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لحم الصيد لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم».
والذي في الرواية الأخرى: من قوله عليه السلام: «هل معكم منه شيء؟» فيه أمران:
أحدهما: تبسط الإنسان إلى صاحبه في طلب مثل هذا.
والثاني: زيادة تطييب قلوبهم في موافقتهم في الأكل وقد تقدم لنا قوله عليه السلام: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» والإشارة إلى أن ذلك لطلب موافقتهم في الحلق فإنه كان أطيب لقلوبهم.
2- عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء- أو بودان- فرده عليه فلما رأى ما في وجهي قال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) وفي لفظ لمسلم: «رِجْلُ حِمَارٍ» وفي لفظ: «شق حمار» وفي لفظ: «عجز حمار».
ووجه هذا الحديث: أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.
الصعب بالصاد المهملة والعين المهملة أيضا وجثامة بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة وفتح الميم.
وقوله: (أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) الأصل: أن يتعدى أهدى بإلى وقد يتعدى باللام ويكون بمعناه وقد يحتمل أن تكون اللام بمعنى أجل وهو ضعيف.
وقوله: (حمارا وحشيا) ظاهره: أنه أهداه بجملته وحمل على أنه كان حيا وعليه يدل تبويب البخاري رحمه الله وقيل: إنه تأويل مالك رحمه الله وعلى مقتضاه: يستدل بالحديث على منع وضع المحرم يده على الصيد بطريق التملك بالهدية ويقاس عليها: ما في معناها من البيع.
والهبة إلا أنه رد هذا التأويل بالروايات التي ذكرها المصنف عن مسلم من قوله عجز حمار أو شق حمار أو رجل حمار فإنها قوية الدلالة على كون المهدى بعضا وغير حي فيحتمل قوله: (حمارا وحشيا) المجاز وتسمية البعض باسم الكل أو فيه حذف مضاف ولا تبقى فيه دلالة على ما ذكره من تملك الصيد بالهبة على هذا التقدير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم»
«إنا» الأولى مكسورة الهمزة لأنها ابتدائية والثانية مفتوحة: لأنها حذف منها اللام التي للتعليل وأصله: إلا لأنا.
وقوله: «لم نرده» المشهور عند المحدثين: فيه فتح الدال وهو خلاف مذهب المحققين من النحاة ومقتضى مذهب سيبيويه وهم ضم الدال وذلك في كل مضاعف مجزوم أو موقوف اتصل به هاء ضمير المذكر وذلك معلل عندهم بأن الهاء حرف خفي فكأن الواو تالية للدال لعدم الاعتداد بالهاء وما قبل الواو: يضم وعبروا عن ضمتها لما بعدها وهذا بخلاف ضمير المؤنث إذا اتصل بالمضاعف المشدد فإنه يفتح باتفاق وحكى في مثل هذا الأول الموقوف لغتان أخريان إحداهما: الفتح كما يقول المحدثون والثانية: الكسر وأنشد فيه:
قال أبو ليلى لحبلى: مده **حتى إذا مددته فشده
إن أبا ليلى نسيج وحده
وقوله عليه السلام: «إلا أنا حرم» يتمسك به في منع أكل المحرم لحم الصيد مطلقا فإنه علل بمجرد الإحرام والذين أباحوا أكله: لا يكون مجرد الإحرام عندهم علة وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده لأنه صيد لأجله جمعا بينه وبين حديث أبي قتادة والحرم جمع حرام.
والأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد وودان فتح الواو وتشديد الدال آخره نون: موضعان معروفان فيما بين مكة والمدينة.
ولمسألة أكل المحرم الصيد تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] وهل المراد بالصيد: نفس الاصطياد أو المصيد؟ وللاستقصاء فيه موضع غير هذا ولكن تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حرم قد يكون إشارة إليه.
وفي اعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للصعب: تطييب لقلبه لما عرض له من الكراهة في رد هديته ويؤخذ منه: استحباب مثل ذلك من الاعتذار.
وقوله: «فلما رأى ما في وجهي» يريد من الكراهة بسبب الرد.