1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: «اقتلوه».
ثبت من قول ابن شهاب في رواية مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محرما ذلك اليوم) وظاهر كون المغفر على رأسه يقتضي ذلك ولكنه محتمل أن يكون لعذر وأخذ من هذا: أن المريد لدخول مكة إذا كان محاربا يباح له دخولها بغير إحرام لحاجة المحارب إلى التستر بما يقيه وقع السلاح.
وابن خطل بفتح الخاء والطاء: اسمه عبد العزى وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لقتله قد يتسم به في مسألة إباحة قتل الملتجئ إلى الحرم.
ويجاب عنه بأن ذلك محمول على الخصوصية التي دل عليها قوله عليه السلام: «ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى».
كداء بفتح الكاف والمد والثنية السفلى المعروف فيها كدا بضم الكاف والقصر وثم موضع آخر يقال له كدي بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء وليس هو السفلى على المعروف والثنية طريق بين الجبلين والمشهور: استحباب الدخول من كداء وإن لم تكن طريق الداخل إلى مكة فيعرج إليها وقيل: إنما دخل النبي صلى الله عليه وسلم منها لأنها على طريقه فلا يستحب لمن ليست على طريقه وفيه نظر.
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوا: كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين.
فيه أمران:
أحدهما: قبول خبر الواحد وهو فرد من أفراد لا تحصى كما قدمناه وفيه جواز الصلاة في الكعبة وقد اختلف في ذلك ومالك فرق بين الفرض والنفل فكره الفرض أو منعه وخفف في النفل لأنه مظنة التخفيف في الشروط.
وفي الحديث: دليل أيضا على جواز الصلاة بين الأساطين والأعمدة وإن كان يحتمل أن يكون صلى في الجهة التي بينهما وإن لم يكن في مسامتتهما حقيقة وقد وردت في ذلك كراهة فإن لم يصح سندها قدم هذا الحديث وعمل بحقيقة قوله: (بين العمودين) وإن صح سندها: أول بما ذكرناه: أنه صلى في سمت ما بينهما وإن كانت آثارا فقط: قدم المسند عليها.
4- عن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
فيه دليل على استحباب تقبيل الحجر الأسود وقول عمر هذا الكلام في ابتداء تقبيله: ليبين أنه فعل ذلك اتباعا وليزيل بذلك الوهم الذي كان ترتب في أذهان الناس في أيام الجاهلة ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام.
5- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها: إلا الإبقاء عليهم).
قيل: إن هذا القدوم لم يكن في الحجة وإنما كان في عمرة القضاء فأخذ من هذا: أنه نسخ منه عدم الرمل فيما بين الركنين فإنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: «رمل من الحجر إلى الحجر» وذكر: أنه كان في الحج فيكون متأخرا فيقدم على المتقدم.
وفيه دليل على استحباب الرمل والأكثرون على استحبابه مطلقا في طواف القدوم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده وإن كانت العلة التي ذكرها ابن عباس قد زالت فيكون استحبابه في ذلك الوقت لتلك العلة وفيما بعد ذلك تأسيا واقتداء بما فعل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من الحكمة: تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام وفي طي تذكرها ك مصالح دينية إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى والمبادرة إليه وبذل الأنفس في ذلك وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيرا من الأعمال التي وقعت في الحج ويقال فيها إنها تعبد ليست كما قيل ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها: حصل لنا من ذلك تعظيم الأولين وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر باعثا لنا على مثل ذلك ومقررا في أنفسنا تعظيم الأولين وذلك معنى معقول.
مثاله: السعي بين الصفا والمروة إذا فعناه وتذكرنا أن سببه: قصة هاجر مع ابنها وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة والآية في إخراج الماء لهما- كان في ذلك مصالح عظيمة أي في التذكر لتلك الحال وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه: رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده: حصل من ذلك مصالح عظيمة النفع في الدين.
وفي الحديث: جواز تسمية الطوافات بالأشواط لقوله: «فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة» ونقل عن بعض المتقدمين وعن الشافعي: أنهما كرها هذه التسمية والحديث على خلافه.
وإنما ذكر في هذا الحديث: «أنهم لم يرملوا بين الركنين اليمانيين» لأن المشركين لم يكونوا يرون المسلمين إذا كانوا في هذا المكان.
6- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود- أول ما يطوف- يخب ثلاثة أشواط).
فيه دليل على الاستلام للركن وذكر بعض مصنفي الشافعية المتأخرين أن استلام الركن يستحب مع استلام الحجر أيضا وله متمسك بهذا الحديث وإن كان يحتمل أن يكون معنى قوله: (استلم الركن) استلم الحجر وعبر بقوله: (استلم الركن) عن كونه استلم الحجر فإن الحجر بعض الركن كما أنه إذا قال: (استلم الركن) إنما يريد بعضه وفيه دليل على الخبب في جميع الأشواط الثلاث وفيه دليل على تقديم الطواف في ابتداء قدوم مكة.
7- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن).
المحجن: عصا محنية الرأس.
فيه دليل على جواز الطواف راكبا وقيل: إن الأفضل: المشي وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لتظهر أفعاله فيقتدى بها وهذا يؤخذ منه أصل كبير وهو أن الشيء قد يكون راجحا بالنظر إلى محله من حيث هو فإذا عارضه أمر آخر أرجح منه: قدم على الأول من غير أن تزول الفضيلة الأولى حتى إذا زال ذلك المعارض الراجح: عاد الحكم الأول من حيث هو هو وهذا إنما يقوى إذا قام الدليل على أن ترك الأول إنما هو لأجل المعارض الراجح وقد يؤخذ ذلك بقرائن ومناسبات وقد يضعف وقد يقوى بحسب اختلاف المواضع وهاهنا يصطدم الظاهر مع المتعبين للمعاني.
واستدل بالحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه من حيث إنه لا يؤمن بول البعير في أثناء الطواف في المسجد ولو كان نجسا لم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة وقد منع لتعظيم المساجد ما هو أخف من هذا.
وفي الحديث دليل على الاستلام بالمحجن إذا تعذر الوصول إلى الاستلام باليد وليس فيه تعرض لتقبيله.
8- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين).
اختلف الناس: هل تعم الأركان كلها بالاستلام أم لا؟ والمشهور بين علماء الأمصار: ما دل عليه هذا الحديث وهو اختصاص الإسلام بالركنين اليمانيين وعلته: أنهما على قواعد إبراهيم عليه السام وأما الركنان الآخران فاستقصرا عن قواعد إبراهيم كذا ظن ابن عمر وهو تعليل مناسب وعن بعض الصحابة: أنه كان يستلم الأركان كلها ويقول: (ليس شيء من البيت مهجورا) واتباع ما دل عليه الحديث أولى فإن الغالب على العبادات: الاتباع لاسيما إذا وقع التخصيص مع توهم الاشتراك في العلة وهنا أمر زائد وهو إظهار معنى للتخصيص غير موجود فيما ترك فيه الاستلام.