1- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة».
جمهور العلماء على بقاء حكم صلاة الخوف في زماننا كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه ونقل عن أبي يوسف خلافه أخذ من قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] وذلك يقتضي تخصيصه بوجوده فيهم وقد يؤيد هذا بأنها صلاة على خلاف المعتاد وفيها أفعال منفية فيجوز أن تكون المسامحة فيها بسبب فضيلة إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم والجمهور يدل على مذهبهم دليل التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم والمخالفة المذكورة لأجل الضرورة وهي موجودة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هي موجودة في زمنه ثم الضرورة تدعو إلى أن لا يخرج وقت الصلاة عن أدائها وذلك يقتضي إقامتها على خلاف المعتاد مطلقا أعني في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده فإذا ثبت جوازها بعد الرسول على الوجه الذي فعله فقد وردت عنه صلى الله عليه وسلم فيها وجوه مختلفة في كيفية أدائها تزيد عن العشرة فمن الناس من أجاز الكل واعتقد أنه عمل بالكل وذلك إذا ثبت أنها وقائع مختلفة قول محتمل ومن الفقهاء من رجح بعض الصفات المنقولة. فأبو حنيفة ذهب.
إلى حديث ابن عمر هذا إلا أنه قال أنه بعد سلام الإمام تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي ثم تذهب ثم تأتي إلى الطائفة الثانية إلى موضع الإمام فتقضي ثم تذهب وقد أنكرت عليه هذه الزيادة وقيل أنها لم ترد في حديث.
واختار الشافعي رواية صالح بن خدوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف واختلف أصحابه لو صلى على رواية ابن عمر هل تصح صلاته أم لا؟ فقيل: أنها صحيحة لصحة الرواية وترجيح رواية صالح من باب الأولى.
واختار مالك ترجيح الصفة التي ذكرها سهل بن أبي حثمة التي رواها عنه في الموطأ موقوفة وهي تخالف الرواية المذكورة في الكتاب في سلام الإمام فإن فيها أن الإمام يسلم وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه.
والفقهاء لما رجح بعضهم بعض الروايات على بعض احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح فتارة يرجحون بموافقة ظاهر القرآن وتارة بكثرة الرواة وتارة يكون بعضها موصولا وبعضها موقوفا وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة وتارة بالمعاني وهذه الرواية التي اختارها أبو حنيفة توافق الأصول في أن قضاء الطائفتين بعد سلام الإمام وأما ما اختاره الشافعي ففيه قضاء الطائفتين معا قبل سلام الإمام وأما ما اختاره مالك ففيه قضاء إحدى الطائفتين قبل سلام الإمام.
2- عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات ابن جبير: (عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم).
الرجل الذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة.
هذا الحديث هو مختار الشافعي في صلاة الخوف إذا كان العدو في غير جهة القبلة ومقتضاه أن الإمام ينتظر الطائفة الثانية قائما في الثانية وهذا في الصلاة المقصورة أو الثنائية في أصل الشرع فأما الرباعية فهل ينتظرها قائما في الثالثة أو قبل قيامه؟ فيه اختلاف للفقهاء في مذهب مالك وإذا قيل بأنه ينتظرها فهل تفارقه الطائفة الأولى قبل تشهده بعد رفعه من السجود أو بعد التشهد؟ واختلف الفقهاء فيه وليس في الحديث دلالة لفظية على أحد المذهبين وإنما يؤخذ بطريق الاستنباط منه.
ومقتضى الحديث أيضا: أن الطائفة الأولى تتم لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام وفيه مخالفة للأصول في غير هذه الصلاة لكن فيها ترجيح من جهة المعنى لأنها إذا قضت وتوجهت إلى نحو العدو توجهت فارغة من الشغل بالصلاة فيتوفر مقصود صلاة الخوف وهو الحراسة على الصفة التي اختارها أبو حنيفة: يتوجه الطائفة للحراسة مع كونها في الصلاة فلا يتوفر المقصود من الحراسة فربما أدى الحال إلى أن يقع في الصلاة الضرب والطعن وغير ذلك من منافيات الصلاة ولو وقع في هذه الصورة لكان خارج الصلاة وليس بمحذور.
ومقتضى الحديث أيضا: أن الطائفة الثانية تتم لأنفسها قبل فراغ الإمام وفيه ما في الأول.
ومقتضاه أيضا: أنه يثبت حتى تتم لأنفسها وتسلم وهو اختيار الشافعي وقول في مذهب مالك وظاهر مذهب مالك: أن الإمام يسلم وتقضي الطائفة الثانية بعد سلامه وربما ادعى بعضهم: أن ظاهر القرآن يدل على أن الإمام ينتظرهم ليسلم بهم بناء على أنه فهم من قوله تعالى: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] أي بقية الصلاة التي بقيت للإمام فإذا سلم من البقية وليس بالقوي الظهور.
وقد يتعلق بلفظ الراوي من يرى أن السلام ليس من الصلاة من حيث إنه قال: «فصلى بهم الركعة التي بقيت» فجعلهم مصلين معه لما يسمى ركعة ثم أتى بلفظ: «ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» فجعل مسمى السلام متراخيا عن مسمى الركعة إلا أنه ظاهر ضعيف وأقوى منه في الدلالة: ما دل على أن السلام من الصلاة والعمل بأقوى الدليلين متعين والله أعلم.
3- عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا صفين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة وكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه: انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه- الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى- فقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه: انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلما جميعا.
قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم).
ذكره مسلم بتمامه وذكر البخاري طرفا منه وأنه: (صلى صلاة الخوف مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة السابعة غزوة ذات الرقاع).
هذه كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة فإنه تتأتى الحراسة مع كون الكل مع الإمام في الصلاة وفيها التأخير عن الإمام لأجل العدو والحديث يدل على أمور.
أحدها: أن الحراسة في السجود لا في الركوع هذا هو المذهب المشهور وحكي وجه عن بعض أصحاب الشافعي: أنه يحرس في الركوع أيضا والمذهب: الأول لأن الركوع لا يمنع من إدراك العدو بالبصر فالحراسة ممكنة معه بخلاف السجود.
الثاني: المراد بالسجود الذي سجده النبي صلى الله عليه وسلم وسجد معه الصف الذي يليه: هو السجدتان جميعا.
الثالث: الحديث يدل على أن الصف الذي يلي الإمام يسجد معه في الركعة الأولى ويحرس الصف الثاني فيها ونص الشافعي علىخلافه وهو أن الصف الأول يحرس في الركعة الأولى فقال بعض أصحابه: لعله سها أو لم يبلغه الحديث وجماعة من العراقيين وافقوا الصحيح ولم يذكر بعضهم سوى ما دل عليه الحديث كأبي اسحاق الشيرازي وبعضهم قال بذلك بناء على المشهور عن الشافعي: أن الحديث إذا صح يذهب إليه ويترك قوله.
وأما الخراسانيون: فإن بعضهم تبع نص الشافعي كالغزالي في الوسيط.
ومنهم من ادعى: أن في الحديث رواية كذلك ورجح ما ذهب إليه الشافعي بأن الصف الأول يكون جنة لمن خلفه ويكون ساترا له عن أعين المشركين وبأنه أقرب إلى الحراسة وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية والترجيح إنما يكون بعدها.
الرابع: الحديث يدل على أن الحراسة يتساوى فيها الطائفتان في الركعتين فلو حرست طائفة واحدة في الركعتين معا ففي صحة صلاتهم خلاف لأصحاب الشافعي.