1- عن عائشة رضي الله عنها: «أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا ينادي: الصلاة جامعة فاجتمعوا وتقدم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: قولها: (خسفت الشمس) يقال بفتح الخاء والسين ويقال: خسفت على صيغة ما لم يسم فاعله.
واختلف الناس في الخسوف والكسوف بالنسبة إلى الشمس والقمر فقيل: الخسوف للشمس والكسوف للقمر وهذا لا يصح لأن الله تعالى أطلق الخسوف على القمر وقيل: بالعكس وقيل: هما بمعنى واحد ويشهد لهذا: اختلاف الألفاظ في الأحاديث فأطلق فيهما الخسوف والكسوف معا في محل واحد وقيل: الكسوف ذهاب النور بالكلية والخسوف: التغير أعني تغير اللون.
الثاني: صلاة الكسوف سنة مؤكدة بالاتفاق أعني كسوف الشمس دليله: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لها وجمعه الناس مظهرا لذلك وهذه إمارات الاعتناء والتأكيد وأما كسوف القمر: فتردد فيها مذهب مالك وأصحابه ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول.
الثالث: لا يؤذن لصلاة الكسوف اتفاقا والحديث يدل على أنه ينادى لها الصلاة جامعة وهي حجة لمن استحب ذلك.
الرابع: سنتها الاجتماع للحديث المذكور.
وقد اختلف الأحاديث في كيفيتها: واختلف العلماء في ذلك فالذي اختاره مالك والشافعي رحمهما الله: ما دل عليه حديث عائشة وابن عباس من أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وركوعان وسجودان وقد صح غير ذلك أيضا وهو ثلاث ركعات وأربع ركعات في كل ركعة وقيل: في ترجيح مذهب مالك والشافعي: إن ذلك أصح الروايات؟.
والحديث صريح في الرد على من قال: بأنها ركعتان كسائر النوافل واعتذروا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا؟ فلما لم يرها انجلت ركع.
وفي هذا التأويل ضعف إذا قلنا: إن سنتها ركعتان كسائر النوافل لكن قال بعض العلماء: إنه يرفع رأسه بعد الركوع فإن رأى الشمس لم تنجل ركع ثم يرفع رأسه ويختبر أمر الشمس فإن لم تنجل ركع ويزيد الركوع هكذا ما لم تنجل فإذا انجلت سجد ولعله قصد بذلك العلم بالأحاديث التي فيها أكثر من ركوعين في ركعة ثلاث وأربع وخمس وهذا على هذا المذهب: أقرب من تأويل المتقدمين لأنه يجعل سنة صلاة الكسوف ذلك ويكون الفعل مبينا لسنة هذه الصلاة.
وعلى مذهب الأولين يريدون أن يخرجوا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات عن المشروعية مع مخالفتهم للقياس في زيادة ما ليس من الأفعال المشروعة في الصلاة وقد أطلق في الحديث لفظ ركعات على الركوع.
2- عن أبي مسعود- عقبة بن عمرو الأنصاري البدري- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينخسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم».
في الحديث رد على اعتقاد أهل الجاهلية في أن الشمس تكسفان لموت العظماء وفي قوله عليه السلام: «يخوف الله بهما عباده» إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية.
وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسبابا عادية وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله عليه السلام: «يخوف الله بهما عباده» وهذا الاعتقاد فاسد لأن لله تعالى أفعالا على حسب الأسباب العادية وأفعالا خارجة عن تلك الأسباب فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانية وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد هبوب الريح: «يتغير ويدخل ويخرج» خشية أن تكون كريح عاد وإن كان هبوب الريح موجودا في العادة.
والمقصود بهذا الكلام أن يعلم أن ما ذكره أهل الحساب من سبب الكسوف: لا ينافي.
كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لأن الكسوف كان عند موت ابنه إبراهيم فقيل: إنهما إنما كسفت لموت إبراهيم فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وقد ذكروا: أنها إذا صليت صلاة الكسوف على الوجه المذكور ولم تنجل الشمس: إنها لا تعاد على تلك الصفة وليس في قوله: «فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» ما يدل على خلاف هذا لوجهين.
أحدهما: أنه أمر بمطلق الصلاة لا بالصلاة على هذا الوجه المخصوص ومطلق الصلاة سائغ إلى حين الانجلاء.
الثاني: لو سلما أن المراد الصلاة الموصوفة بالوصف المذكور: لكان لنا أن نجعل هذه الغاية لمجموع الأمرين- أعني الصلاة والدعاء- ولا يلزم من كونهما غاية لمجموع الأمرين: أن تكون غاية لكل واحد منهما على انفراده فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة على الوجه المخصوص مرة واحة ويكون غاية للمجموع.
3- عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام- وهو دون القيام الأول- ثم ركع فأطال الركوع- وهو دون الركوع الأول- ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا», ثم قال: «يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لا تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».
وفي لفظ: «فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات».
الكلام عليه من وجوه:
أحدها: ما يتعلق بلفظ الخسوف بالنسبة إلى الشمس وإقامة هذه الصلاة في جماعة وقد تقدم.
الثاني: قولها: «فأطال القيام» لم نجد فيه حدا وقد ذكروا أنه نحوا من سورة البقرة لحديث آخر ورد فيه.
وقولها: (فأطال الركوع) لم نجد فيه حدا وذكر أصحاب الشافعي: أنه نحوا من مائة آية واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما لايضر بمن خلفه.
وقولها: (ثم أطال القيام وهو دون القيام الأول) يقتضي أن سنة هذه الصلاة: تقصير القيام الثاني عن الأول وقد تقدم قول من استحب ذلك في جميع الصلوات وكأن السبب فيه: أن النشاط في الركعة الأولى يكون أكثر فيناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملال والفقهاء اتفقوا على القراءة في هذا القيام الثاني- أعني الذين قالوا بهذه الكيفية في صلاة الكسوف- وجمهورهم على قراءة الفاتحة فيه إلا بعض أصحاب مالك كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث على ما سننبه عليه في مواضعه.
الثالث: قولها: (ثم سجد فأطال السجود) يقتضي طول السجود في هذه الصلاة وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يطول السجود فيها وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن أبي العباس بن سريج أنه يطيل السجود كما يطيل الركوع ثم قال: وليس بشيء لأن الشافعي لم يذكر ذلك ولا نقل ذلك في خبر ولو كان قد أطال لنقل كما في القراءة والركوع.
قلنا: بل نقل ذلك في أخبار منها حديث عائشة رضي الله عنها هذا وفي حديث آخر عنها أنها قالت ما سجد سجودا أطول منه وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى وجابر بن عبد الله.
الرابع: قولها: (ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الركعة الأولى) وقد حكمت في الركعة الأولى أن القيام الثاني دون القيام الأول وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول ومقتضى هذا التشبيه أن يكون القيام الثاني دون القيام الأول وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول ولكن هل يراد بالقيام الأول: الأول من الركعة الأولى أو الأول من الركعة الثانية؟ وكذلك في الركوع إذا قلنا دون الركوع الأول هل يراد به الأول من الركعة الأولى أو الأول من الركعة الثانية؟ تكلموا فيه وقد رجح أن المراد بالقيام الأول الأول من الركعة الثانية والركوع الأول: الأول من الثانية أيضا فيكون كل قيام وركوع دون الذي يليه.
الخامس: قولها: (فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه) ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة ولم ير ذلك مالك ولا أبو حنيفة قال بعض أتباع مالك: ولا خطبة ولكن ويذكرهم وهذا خلاف الظاهر من الحديث ولاسيما بعد أن ثبت أنه ابتدأ بما تبتدئ به الخطبة من حمد الله والثناء عليه والذي ذكر من العذر عن مخالفة هذا الظاهر ضعيف مثل قولهم إن المقصود إنما كان الإخبار أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته للرد على من قال ذلك في موت إبراهيم والإخبار بما رآه من الجنة والنار وذلك يخصه وإنما استضعفناه لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الآيتين بما هو مطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله بل هو كذلك جزما.
السادس: قوله: «فإذا رأيتم فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» اختلف الفقهاء في وقت صلاة الكسوف فقيل: هو ما يعد حل النافلة إلى الزوال وهو ظاهر مذهب مالك أو أصحابه وقيل: إلى ما بعد صلاة العصر وهو في المذهب أيضا وقيل: جميع النهار وهو مذهب الشافعي ويستدل بهذا الحديث فإنه أمر بالصلاة إذا رأى ذلك وهو عام في كل وقت وفي الحديث دليل على استحباب الصدقة عند المخاوف لاستدفاع البلاء المحذور.
السابع: قوله: «ما من أحد أغير من الله من أن يزن يعبده أو تزني أمته» المنزهون لله تعالى عن سمات الحدث ومشابهة المخلوقين بين رجلين إما ساكت عن التأويل وإما مؤول على أن يريد شدة المنع والحماية من الشيء لأن الغائر على الشيء مانع له وحام منه فالمنع والحماية من لوازم الغيرة فأطلق لفظ الغيرة عليهما من مجاز الملازمة أو على غير ذلك من الوجوه السائغة في لسان العرب والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم التنزيه فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه ويؤخذ كما تؤخذ سائر الأحكام إلا أن يدعي المدعي أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع أعني المنع من التأويل ثبوتا قطعيا فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح.
الثامن: قوله: «والله لو تعلمون ما أعلم..» إلخ فيه دليل على ترجيح مقتضى الخوف وترجيح التخويف في المواعظ على الإشاعة بالرخص لما ف يذلك من التسبب إلى تسامح النفوس لما جبلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات وذلك مرض خطر والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها لا بما يزيدها.
التاسع: قوله في لفظ: «فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات» أطلق الركعات على عدد الركوع وجاء في موضع آخر في ركعتين وهذا الذي أشرنا إليه: أنه متمسك من قال من.
أصحاب مالك أنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين والله أعلم.
4- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خسفت الشمس على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام فصلى بأطول قيام وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قط ثم قال: «إن هذه الآيات التي يرسلها الله عز وجل لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده فإذا رأيتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره».
استعمل الخسوف في الشمس كما تقدم.
وقوله: «فزعا يخشى أن تكون الساعة» فيه إشارة إلى ما ذكرنا من دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها.
وفيه دليل على جواز الإخبار بما يوجب الظن من شاهد الحال حيث قال: فزعا يخشى أن تكون الساعة مع أن الفزع محتمل أن يكون لذلك ومحتمل أن يكون لغيره كما خشي صلى الله عليه وسلم من الريح أن تكون كريح قوم عاد ولم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان سبب خوفه فالظاهر أنه بنى على شاهد الحال أو قرينة دلت عليه.
وفي قوله كأطول قيام وركوع وسجود دليل على تطويل السجود في هذه الصلاة وهو الذي قدمنا أن أبا موسى رواه.
وفي الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وقوله: «كأطول قيام وركوع وسجود» دليل على تطويله السجود في هذه الصلاة وهو الذي قدمنا أن أبا موسى رواه وفي الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء والصواب المشهور: الأول فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء وذلك مقتض لأن يعتنى بمعرفة ومراقبة حال الشمس في الانجلاء فلولا أن المسجد راجح لكانت الصحراء أولى لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء أو عدمه وأيضا فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع الناس وبروزهم.
وقد تقدم الكلام على قوله عليه السلام: «لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته» وأنه رد على من اعتقد ذلك.
وفي قوله: «فافزعوا» إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار وإشارة إلى أن الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة أيضا وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف.