1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة).
لا خلاف في أن صلاة العيدين من الشعائر المطلوبة شرعا وقد تواتر بها النقل الذي يقطع العذر ويغني عن أخبار الآحاد وإن كان هذا الحديث من آحاد ما يدل عليها وقد كان للجاهلية يومان معدان للعب فأبدل الله المسلمين منهما هذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير الله وتحميده وتمجيده وتوحديه ظهورا شائعا يغيظ المشركين وقيل: إنما يقعان شكرا لله تعالى على ما أنعم الله به من أداء العبادات المتعلقة بهما فعيد الفطر: شكرا لله تعالى على إتمام صوم شهر رمضان وعيد الأضحى: شكرا على العبادات الواقعات في العشر وأعظمهما: إقامة وظيفة الحج.
وقد ثبت أيضا: أن الصلاة مقدمة على الخطبة في صلاة العيد وهذا الحديث يدل عليه وقد قيل: إن بني أمية غيروا ذلك وجميع ما له خطب من الصلوات فالصلوات مقدمة فيه إلا الجمعة وخطبة يوم عرفة.
وقد فرق بين صلاة العيد والجمعة بوجهين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين ينتابها الناس من خارج المصر ويدخل وقتها بعد انتشارهم في أشغالهم وتصرفاتهم في أمور الدنيا فقدمت الخطبة عليهم حتى يتلاحق الناس ولا يفوتهم الفرض ولاسيما فرض لا يقضى على وجهه وهذا معدوم في صلاة العيد.
الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة وإما قصرت بشرائط منها الخطبتان والشرائط لا تتأخر وتتعذر مقارنة هذا الشرط للمشروط الذي هو الصلاة فلزم تقديمه وليس هذا المعنى في صلاة العيد إذ ليست مقصورة على شيء آخر بشرط حتى يلزم تقديم ذلك الشرط.
2- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له», فقال أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي الصلاة فقال: «شاتك شاة لحم» قال: يا رسول الله فإن عندنا عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني؟ قال: «نعم ولن تجزي عن أحد بعدك».
البراء بن عازب بن الحرث بن عدي أبو عمارة ويقال: أبو عمر أنصاري أوسي نزل الكوفة ومات بها في زمن مصعب بن الزبير متفق على إخراج حديثه.
وأبو بردة بن نيار اسمه هاني بن نيار وقيل: هاني بن عمرو وقيل: الحرث بن عمر وقيل: مالك بن زهير ولم يختلفوا أنه من بلي وينسبونه: هانئ بن عمرو بن نيار كان عقبيا بدريا شهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير وقال الواقدي: أنه توفي في أول خلافة معاوية.
والحديث دليل على خطبة لعيد الأضحى ولا خلاف فيه وكذلك هو دليل على تقديم الصلاة عليها كما قدمناه.
والنسك هنا يراد به الذبيحة وقد يستعمل فيها كثيرا واستعملها بعض الفقهاء في نوع خاص هو الدماء المراقة في الحج وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من نوع العبادات ومنه يقال: فلان ناسك: أي متعبد.
وقوله: «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا» أي مثل صلاتنا ومثل نسكنا وقوله فقد أصاب النسك معناه- والله أعلم- فقد أصاب مشروعية النسك أو ما قارب ذلك.
وقوله: «من نسك قبل الصلاة فلا نسك له» يقتضي أما ذبح قبل الصلاة لا يقع مجزيا عن الأضحية ولا شك أن الظاهر من اللفظ أن المراد قبل فعل الصلاة فإن أطلق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر ومذهب الشافعي اعتبر وقت الصلاة ووقت الخطبتين فإذا مضى ذلك دخل وقت الأضحية ومذهب غيره اعتبار فعل الصلاة والخطبتين وقد ذكرنا أنه الظاهر.
ولعل منشأ النظر في هذا أن أن الألف واللام هل يراد بها تعريف الحقيقة؟ فإذا أراد بها تعريف الحقيقة جاز ما قاله غير غير الشافعي وإذا أراد به تعريف العهد انصرف إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن اعتبار حقيقة ذلك الفعل في حق من ذبح بعد تلك الصالة في غير ذلك الوقت فتعين اعتبار مقدار وقتها والحديث نص على اعتبار الصلاة ولم يتعرض لاعتبار الخطبتين لكنه لما كانت الخطبتين مقصودتين في هذه العبادة اعتبرهما الشافعي.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم» دلالة على إبطال كونها نسكا. وفيه دليل على أن المأمورات إذا وقع على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل وقد فرقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيات فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل كما جاء في حديث معاوية بن الحكم حين تكلم في الصلاة وفرق بينهما بان المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلف بالانكفاف عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي فعذر بالجهل فيه.
قوله: «ولن تجزي عن أحد بعدك» الذي اختير فيه فتح التاء بمعنى تقضي يقال: جزى عني كذا أي: قضى وذلك أن الذي فعله لم يقع نسكا فالذي يأتي بعده لا يكون قضاء عنه.
وقد صرح بالحديث تخصيص أبي بردة بإجزائها في هذا الحكم عما سبق ذبحه فامتنع قياس غيره عليه.
3- عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح وقال: «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها ومن لم يذبح فليذبح باسم الله».
جندب بن عبد الله بن سفيان بجلي من بجيلة علقي وهو حي من بجيلة يقال: فيه جندب بن سفيان متفق على إخراج حديثه يقال: مات سنة أربع وستين.
والحديث الذي رواه في معنى الحديث الذي قبله وهو أدخل في الظهور في اعتبار فعل الصلاة من الأول من حيث أن الأول اقتضى تعليق الحكم بلفظ الصلاة وقد قلنا أنه يحتمل أن تكون الألف واللام للعهد فينصرف إلى صلة النبي صلى الله عليه وسلم فيتعين وقتها وهذا المعنى معدوم في هذا الحديث لم يعلق فيه الحكم بلفظ فيه الألف واللام حتى يأتي فيه ذلك البحث إلا أنه إن جرينا على ظاهره اقتضى أنه لا تجزى الأضحية في حق من لم يصل صلاة العيد أصلا فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث وإلا فالواجب الخروج عن الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها بعد الخروج عن الظاهر في محل البحث.
وقد يستدل بصيغة الأمر في قوله عليه السلام: «فليذبح أخرى» إحدى طائفتين: إما من يرى الأضحية واجبة وإما من يرى أنها تتعين بالشراء بنية الأضحية أو بغير ذلك من غير اعتبار لفظ في التعيين وإنما قلت ذلك لأن اللفظ المعين للأضحية من صيغة النذر أو غيرها قليل نادر وصيغة من في قوله: «من ذبح» صيغة عموم واستغراق في حق كل من ذبح قبل أن يصلي فقد ذكرت لتأسيس القواعد على الصورة النادرة أمر مستكره على ما قرر من قواعد التأويل في أصول الفقه فإذا تقرر هذا- وهو استعاد حمله على الأضحية المعينة بالنذر أو غيره من الألفاظ- يبقى التردد في أن الأولى حمله على من سبق له أضحية معينة بغير اللفظ أو حمله على ابتداء الأضحية من غير سبق تعيين.
4- عن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله تعالى, وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال: «يا معشر النساء تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم», فقامت أمراة من سطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ فقال: «لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير», قال: فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن.
أما البداءة بالصلاة قبل الخطبة فقد ذكرناه وأما عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد: فمتفق عليه وكأن سببه تخصيص الفرائض بالأذان تمييزا لها بذلك عن النوافل وإظهارا لشرفها وأشار بعضهم إلى معنى آخر وهو أنه لو دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليها لوجبت الإجابة وذلك مناف لعدم وجوبها وهذا حسن بالنسبة إلى من يرى أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان.
وهذه المقاصد التي ذكرها الراوي- من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته والموعظة والتذكير-: هي مقاصد الخطبة وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة الواجبة: الأمر بتقوى الله وبعضهم: جعل الواجب: ما يسمى خطبة عند العرب وما يتأدى به الواجب في الخطبة الواجبة تتأدى به السنة في الخطبة المسنونة.
وقوله عليه السلام: «تصدقن فإنكن حطب جهنم» فيه إشارة إلى أن الصدقة من الدوافع للعذاب وفيه إشارة إلى الإغلاظ في النصح بما لعله يبعث إلى إزالة العيب أو الذنب اللذين يتصف بهما الإنسان.
وفيه أيضا: العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه من المخاطبين وفيه بذل النصيحة لمن يحتاج إليها.
وقوله: (فقامت امرأة من سطة النساء) فيه لهم وجهان.
أحدهما: ما ذهب إليه بعض الفضلاء الأدباء من الأندلسيين: إنه تغيير أي تصحيف من الراوي كأن الأصل: من سفلة النساء فاختلطت الفاء باللام فصارت طاء ويؤيد هذا: أنه ورد في كتاب ابن أبي شيبة والنسائي: (من سفلة النساء) وفي رواية أخرى: (فقامت امرأة من غير علية النساء).
الوجه الثاني: تقرير اللفظ على الصحة وهو أن تكون اللفظة أصلها من الوسط الذي هو الخيار وبهذا فسره بعضهم من علية النساء وخيارهن وعن بعض الرواة: (من واسطة النساء).
وقوله: (سعفاء الخد) الأسعف والسعفاء: من أصاب خده لون يخالف لونه الأصلي من سواد أو خضرة أو غيرهما.
وتعليله صلى الله عليه وسلم بالشكاة وكفران العشير: دليل على تحريم كفران النعمة لأنه جعله سببا لدخول النار وهذا السبب في الشكاية يجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بالزوج وجحد حقه ويجوز أن يكون راجعا إلى ما يتعلق بحق الله من عدم شكره والاستكانة لقضائه: وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك في حق من هذا ذنبه فكيف بمن له منهن ذنوب أكثر من ذلك كترك الصلاة والقذف؟.
وأخذ الصوفية من هذا الحديث: الطلب للفقراء عند الحاجة من الأغنياء وهذا حسن بهذا الشرط الذي ذكرناه.
وفي مبادرة النساء لذلك والبذل لما لعلهن يحتجن إليه- مع ضيق الحال في ذلك الزمان- ما يدل على رفيع مقامهن في الدين وامتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد يؤخذ منه: جواز تصدق المرأة من مالها في الجملة ومن أجاز التصدق مطلقا من غير تقييد بمقدار معين فلابد له من أمر زائد على هذا يقرر به العموم في جواز الصدقة وكذا من خصص بمقدار معين.
5- عن أم عطية- نسيبة الأنصارية- قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين).
وفي لفظ: «كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى تخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته».
نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة بعدها ياء ساكنة آخر الحروف ثم باء ثاني الحروف وقيل: نبيشة- بنون وباء وشين معجمة- واختلف في اسم أبيها فقيل: نسيبة بنت الحرث وقيل: نسيبة بنت كعب قاله أحمد ويحيى قال أبو عمر وفي هذا نظر يعني في كون اسمها: نسيبة بنت كعب.
و(العواتق) جمع عاتق قيل: هي الجارية حيت تدرك.
والمقصود بذلك: بيان المبالغة في الاجتماع وإظهار الشعار وقد كان ذلك الوقت أهل الإسلام في حيز القلة فاحتيج إلى المبالغة بإخراج العواتق وذوات الخدور.
وفيه إشارة إلى أن البروز إلى المصلى هو سنة العيد واعتزال الحيض ليس بتحريم حضورهن فيه إذا لم يكن مسجدا بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة كما جاء: «ما منعك أن تصلي مع الناس ألست برجل مسلم؟».
وقولها في الرواية الأخرى: «يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته» يشعر بتعليل خروجهن لهذه العلة والفقهاء- أو بعضهم- يستثني خروج الشابة التي يخاف من خروجها الفتنة.