الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى وإنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا».
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأخذ به مالك رحمه الله في أنه لا يزاد في صلاة التنفل على ركعتين وهو ظاهر في اللفظ في صلاة الليل وقد ورد حديث آخر: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» وإنما قلنا: إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وذلك هو المقصود إذ هو ينافي الزيادة فلو جازت الزيادة لما انحصرت صلاة الليل في المثنى.
وهذا يعارضه ظاهر حديث عائشة الآتي وقد أخذ به الشافعي وأجاز الزيادة على ركعتين من غير حصر في العدد وذكر بعض مصنفي أصحابه شرطين في ذلك وحاصل قوله: أنه متى تنفل بأزيد من ركعتين شفعا أو وترا فلا يزيد على تشهدين ثم إن كان المتنفل به شفعا فلا يزيد بين التشهدين على ركعتين وإن كان وترا فلا يزيد بين التشهدين على ركعة.
فعلى هذا إذا تنفل بعشر جلس بعد الثامنة ولا يجلس بعد السابعة ولا بعد ما قبلها من الركعات لأنه حينئذ يكون قد زاد على ركعتين بين التشهدين فإذا تنفل بخمس مثلا جلس بعد الرابعة وبعد الخامسة إن شاء أو بسبع فبعد السادسة والسابعة وإن اقتصر على جلوس واحد في كل ذلك جاز.
وإنما ألجأه إلى ذلك: تشبيه النوافل بالفرائض والفريضة الوتر هي صلاة المغرب وليس بين التشهدين فيها أكثر من ركعة ولم يتفق أصحاب الشافعي على هذا الذي ذكره.
الوجه الثاني من الكلام على الحديث: أنه كان يقتضي ظاهره عدم الزيادة على ركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منهما وقد اختلفوا في التنفل بركعة فردة والمذكور في مذهب الشافعي: جوازه وعن أبي حنيفة: منعه والاستدلال به لهذا القول كما تقدم وهو أولى من استدلال من استدل على ذلك بأنه لو كانت الركعة الفردة صلاة لما امتنع قصر صلاة الصبح والمغرب فإن ذلك ضعيف جدا.
الوجه الثالث: يقتضي الحديث تقديم الشفع على الوتر من قوله: «صلاة الليل مثنى مثنى» وقوله: «توتر له ما صلى» فلو أوتر بعد صلاة العشاء من غير شفع لم يكن آتيا بالسنة وظاهر مذهب مالك أنه لا يوتر بركعة فردة هكذا من غير حاجة.
الوجه الرابع: يفهم منه انتهاء وقت الوتر بطلوع الفجر من قوله: «فإذا خشي أحدكم الصبح» وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما: أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني: ينتهي بصلاة الصبح.
الوجه الخامس: قد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الوتر فإن كان يرى بوجوب كونه آخر صلاة الليل فاستدلال قريب ولا أعلم أحدا قال ذلك وإن كان لا يرى بذلك فيحتاج أن يحمل الصيغة على الندب ولا يستقيم الاستدلال بها على وجوب أصل الوتر عند من يمنع من استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز وإلا كان جمعا بين الحقيقة والمجاز في لفظة واحدة وهي صيغة الأمر.
الوجه السادس: يقتضي الحديث أن يكون الوتر آخر صلاة الليل فلو أوتر ثم أراد التنفل فهل يشفع وتره بركعة أخرى ثم يصلي؟ فيه وجهان للشافعية وإن لم يشفعه بركعة ثم تنفل فهل يعيد الوتر أخيرا؟ فيه قولان للمالكية فيمكن كل واحد من الفريقين أن يستدل بالحديث بعد تقديم مقدمة لكل منهما يحتاج إلى إثباتها.
أما من قال إنه يشفع وتره فيقول: الحديث يقتضي أن يكون آخر صلاة الليل وترا وذلك يتوقف على أن لا يكون قبله وتر لما جاء في الحديث: «لا وتران في الليلة» فلزم عن ذلك: أن يشفع الوتر الأول فإنه أن لم يشفعه وأعاد الوتر لزم وتران في ليلة وإن لم يعد الوتر لم يكن آخر صلاة الليل وترا.
وأما من قال: لا يشفع ولا يعيد الوتر فلأنه منع أن ينعطف حكم صلاة على أخرى بعد السلام والحديث وطول الفصل إن وقع ذلك فإذا لم يجتمعا فالحقيقة أنهما وتران ولا وتران في ليلة فامتنع الشفع وامتنع إعادة الوتر أخيرا ولم يبق إلا مخالفة ظاهر قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ولا يحتاج إلى الاعتذار وهو محمول على الاستحباب كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك وترك المستحب أولى من ارتكاب المكروه.
وأما من قال بالإعادة: فهو أيضا مانع من شفع الوتر للأول محافظة على قوله عليه السلام: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» ويحتاج إلى الاعتذار عن قوله: «ولا وتران في ليلة».
واعلم أنه ربما يحتاج في هذه المسألة إلى مقدمة أخرى وهو أن التنفل بركعة فردة: هل يشرع؟ فعليك بتأمله.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر).
اختلفوا في أن الأفضل تقديم الوتر في أول الليل أو تأخيره إلى آخره؟ على وجهين لأصحاب الشافعي مع الاتفاق على جواز ذلك.
وحديث عائشة يدل على الجواز في الأول والوسط والآخر ولعل ذلك كان بحسب اختلاف الحالات وطرو الحاجات وقيل: بالفرق بين من يرجو أن يقوم في آخر الليل وبين من يخاف أن لا يقوم والأول تأخيره أفضل والثاني: تقديمه أفضل.
ولا شك أنا إذا نظرنا إلى آخر الليل من حيث هو كذلك كانت الصلاة فيه أفضل من أوله لكن إذا عارض ذلك احتمال تفويت الأصل قدمناه على فوات الفضيلة وهذه قاعدة قد وقع فيها خلاف ومن جملة صورها: ما إذا كان عادم الماء يرجو وجوده في آخر الوقت فهل يقدم التيمم في أول الوقت إحرازا للفضيلة المحققة أم يؤخره إحرازا للوضوء؟ فيه خلاف: والمختار في مذهب الشافعي أن التقديم أفضل فعليك بالنظر في التنظير بين المسألتين والموازنة بين الصورتين.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها).
هذا كما قدمناه يتمسك به في جواز الزيادة على ركعتين في النوافل وتأوله بعض المالكية بتأويل لا يتبادر إلى الذهن وهو أن حمل ذلك على أن الجلوس في محل القيام لم يكن إلا في آخر ركعة كأن الأربع كانت الصلاة فيها قياما والأخيرة كانت جلوسا في محل القيام وربما دل لفظه على تأويل أحاديث قدمها هذا منها بأن السلام وقع بين ركعتين وهذا مخالفة للفظ فإنه لا يقع السلام بين كل ركعتين إلا بعد الجلوس وذلك ينافيه قولها: (لا يجلس إلا في آخرها) وفي هذا نظر.
واعلم أن محط النظر هو الموازنة بين الظاهر من قوله عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» في دلالته على الحصر وبين دلالة هذا الفعل على الجواز والفعل يتطرق إليه الخصوص إلا أنه بعيد لا يصار إليه إلا بدليل فتبقى دلالة الفعل على الجواز معارضة بدلالة اللفظ على الحصر ودلالة الفعل على الجواز عندنا أقوى نعم يبقى نظر آخر وهو أن الأحاديث دلت على جواز أعداد مخصوصة فإذا جمعناها ونظرنا أكثرها فما زاد عليه إذا قلنا بجوازه كان قولا بالجواز مع اقتضاء الدليل منعه من غير معارضة الفعل له.
فلقائل أن يقول: يعمل بدليل المنع حيث لا معارض له من الفعل إلا أن يصد عن ذلك إجماع أو يقوم دليل على أن الأعداد المخصوصة ملغاة عن الاعتبار ويكون الحكم الذي دل عليه الحديث مطلق الزيادة فهنا يمكن أمران:
أحدهما: أن نقول مقادير العبادات يغلب عليها التعبد فلا يجزم بأن المقصود مطلق الزيادة.
والثاني: أن يقول المانع المخل هو الزيادة على مقدار الركعتين وقد ألغي بهذه الأحاديث ولا يقوى كثيرا والله عز وجل أعلم.