1- عن أبي عمرو الشيباني- واسمه سعد بن إياس- قال: حدثني صاحب هذه الدار وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها», قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين», قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله», قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني.
عبد الله بن مسعود بن الحرث بن شمخ هذلي يكنى أبا عبد الرحمن شهد بدرا يعرف بابن أم عبد توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه الزبير بن العوام ودفن بالبقيع وكان له يوم مات نيف وسبعون سنة من أكابر الصحابة وفقهائهم.
قوله حدثني صاحب هذه الدار دليل على أن الإشارة يكتفي بها عن التصريح بالاسم وتنزل منزلته إذا كانت معينة للمشار إليه مميزة عن غيره.
وسؤاله عن أفضل الأعمال طلب.
والأعمال هاهنا لعلها محمولة على الأعمال البدنية كما قال الفقهاء أفضل عبادات البدن الصلاة واحترزوا بذلك عن عبادة المال.
وقد تقدم لنا كلام في العمل هل يتناول عمل القلب أم لا؟ فإذا جعلناه مخصوصا بأعمال البدن تبين من هذا الحديث أنه لم يرد أعمال القلوب فإن من عملها ما هو أفضل كالإيمان وقد ورد في بعض الحديث ذكره مصرحا به أعني الإيمان فتبين بذلك الحديث أنه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب وأريد بها في هذا الحديث ما يختص بعمل الجوارح.
وقوله: «الصلاة على وقتها» ليس فيه ما يقتضي أول الوقت وآخره وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت خارج الوقت قضاء وأنها لا تتنزل هذه المنزلة وقد ورد في حديث آخر: «الصلاة لوقتها» وهو أقرب لأن يستدل به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ.
وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال وتقديم بعضها على بعض والذي قيل في هذا إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص أو من هو في مثل حاله أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنها المراد.
ومثال ذلك أن يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «ألا أخبركم بأفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم...» وفسره بذكر الله تعالى على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك أو من هو في مثل حالهم أو من هو في صفاتهم ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهل للنفع الأكبر في القتال لقيل له الجهاد ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحض حاله لصلاحية التبتل لذكر الله تعالى وكان غنيا ينتفع بصدقة ماله لقيل له الصدقة وهكذا في بقية أحوال الناس قد يكون الأفضل في حق هذا مخالفا للأفضل في حق ذاك بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به.
وأما «بر الوالدين» فقد قدم في الحديث على الجهاد وهو دليل على تعظيمه ولا شك في أن أذاهما بغير ما يجب من البر في غير هذا ففي ضبطه إشكال كبير.
وأما «الجهاد في سبيل الله تعالى» فمرتبته في الدين عظيمة والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل فإن العبادات على قسمين منها ما هو مقصود لنفسه ومنها ما هو وسيلة إلى غيره وفضيلة الوسيلة بحسب فضيلة المتوسل إليه فحيث تعظم فضيلة المتوسل إليه تعظم فضيلة الوسيلة ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلة إلى إعلان الإيمان ونشره وإخمال الكفر ودحضه كانت فضيلة الجهاد بحسب فضيلة ذلك والله أعلم.
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس).
المروط: أكسية معلمة تكون من خز وتكون من صوف ومتلفعات: ملتحفات والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل وهذا الحديث حجة لمن يرى التغليس في صلاة الفجر وتقديمها في أول الوقت لاسيما مع ما روي من طول قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلة الصبح وهذا مذهب مالك والشافعي.
وخالف أبو حنيفة ورأى أن الإسفار في بها أفضل لحديث ورد فيه: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وفيه دليل على شهود النساء الجماعة بالمسجد مع الرجال وليس في هذا الحديث ما يدل على كونهن عجزا أو شواب وكره بعضهم الخروج للشواب.
وقولها متلفعات بالعين ويروى متلففات بالفاء والمعنى متقارب إلا أن التلفع يستعمل مع تغطية الرأس قال ابن حبيب: لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس واستأنسوا لذلك بقول عبيد بن الأبرص:
كيف ترجون سقوطي بعدما... لفع الرأس بياض وصلع؟
واللفاع: ما التفع به واللحاف: ما التحف به.
وقد فسر المصنف المروط بكونها أكسية من صوف وخز وزاد بعضهم في صفتها أن تكون مربعة وقال بعضهم: إن سداها من شعر وقيل: إنه جاء مفسرا في الحديث على هذا وقالوا: إن قول امرئ القيس:
على أثرينا ذيل مرط مرجل
قالوا: المرط هاهنا من خز.
وفسر الغلس بأنه اختلاط ضياء الصبح في ظلمة الليل والغلس والغبش متقاربان والفرق.
بينهما أن الغلس في آخر الليل وقد يكون الغبش في آخره وأوله وأما من قال الغبس بالغين والباء والسين المهملة فغلظ عندهم.
3- عن جابر بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت والعشاء أحيانا وأحيانا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس.
الهاجرة: هي شدة الحر بعد الزوال.
الحديث يدل على الفضيلة في أوقات هذه الصلوات فأما الظهر: فقوله: يصلي الظهر بالهاجرة يدل على تقديمها في أول الوقت فإنه قد قيل في الهاجرة والهجير إنهما شدة الحر وقوته ويعارضه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «إذا اشتد الحر فأبردوا» ويمكن الجمع بينهما بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقا فإنه قد تكون فيه الهاجرة في وقت فيطلق على الوقت مطلقا بطريق الملازمة وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديد وفيه بعد وقد يقرب بما نقل عن صاحب (العين) أن الهجير والهاجرة نصف النهار فإذا أخذ بظاهر هذا الكلام كان مطلقا على الوقت.
وفيه وجه آخر وهو أن الفقهاء اختلفوا في أن الإبراد رخصة أو سنة ولأصحاب الشافعي وجهان في ذلك فإن قلنا إنه رخصة فيكون قوله صلى الله عليه وسلم. «أبردوا» أمر إباحة ويكون تعجيله لها في الهاجرة أخذا بالأشق والأولى أو يقول من يرى أن الإبراد سنة: إن التهجير لبيان الجواز وفي هذا بعد لأن قوله كان يشعر بالكثرة والملازمة عرفا.
وقوله: (و العصر والشمس نقية) يدل على تعجيلها أيضا خلافا لمن قال: إن أول وقتها ما بعد القامتين.
وقوله: (والمغرب إذا وجبت) أي الشمس الوجوب: السقوط ويستدل به على أن سقوط قرصها يدخل به الوقت والأماكن تختلف فما كان منها بين الرائي وبين قرص.
الشمس لم يكتف بغيبوبة القرص عن الأعين ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق قال: صلى الله عليه وسلم: «إذا غربت الشمس من هاهنا وطلع الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم» أو كما قال فإن لم يكن ثم حائل فقد قال بعض أصحاب مالك: إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وإشعاعها المستولي عليها وقد استمر العمل بصلاة المغرب عقيب الغروب.
وأخذ منه: أن وقتها واحد والصحيح عندي أن الوقت مستمر إلى غيبوبة الشفق.
وأما العشاء فاختلف الفقهاء فيها فقال قوم: تقديمها أفضل وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال قوم: تأخيرها أفضل لأحاديث سترد في الكتاب وقال قوم: إن اجتمعت الجماعة فالتقديم أفضل وإن تأخرت فالتأخير أفضل وهو قول عند المالكية ومستندهم هذا الحديث وقال قوم: إنه يختلف باختلاف الأوقات ففي الشتاء وفي رمضان: تؤخر وفي غيرهما تقدم وإنما أخرت في الشتاء لطول الليل وكراهة الحديث بعدها.
وهذا الحديث يتعلق بمسألة تكلفوا فيها وهو أن صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في أول الوقت أو بالعكس؟ حتى إنه إذا تعارض في حق شخص أمران أحدهما: أن يقدم الصلاة في أول الوقت منفردا أو يؤخر الصلاة في الجماعة أيها أفضل؟ والأقرب عندي: أن التأخير لصلاة الجماعة أفضل وهذا الحديث يدل عليه لقوله: (وإذا أبطؤوا أخر) فأخر لأجل الجماعة مع إمكان التقديم ولأن التشديد في ترك الجماعة والترغيب في فعلها موجود في الأحاديث الصحيحة وفضيلة الصلاة في أول الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة وأما جانب التشديد في التأخير عن أول الوقت فلم يرد كما في صلاة الجماعة وهذا دليل على الرجحان لصلاة الجماعة.
نعم إذا صح لفظ يدل دلالة ظاهرة على أن الصلاة في أول وقتها أفضل الأعمال كان متمسكا لمن يرى خلاف هذا المذهب وقد قدمنا في الحديث الماضي: أنه ليس فيه دليل على الصلاة في أول الوقت فإن قوله: «على وقتها» لا يشعر بذلك والحديث الذي فيه «الصلاة لوقتها» ليس فيه دلالة قوية الظهور في أول الوقت.
وقد تقدم تفسير الغلس وأن الحديث دليل على أن التغليس بالصبح أفضل والحديث المعارض له وهو قوله: «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» قيل فيه إن المراد بالإسفار: تبين طلوع الفجر ووضوحه للرائي يقينا.
وفي هذا التأويل نظر فإنه قبل التبيين والتيقن في حالة الشك: لا تجوز الصلاة فلا أجر فيها والحديث يقتضي بلفظة أفعل فيه أن ثم أجرين أحدهما: أكمل من الآخر فإن صيغة.
(أفعل) تقتضي المشاركة في الأصل مع الرجحان لأحد الطرفين حقيقة وقد ترد من غير اشتراك في الأصل قليلا على وجه المجاز فيمكن أن يحمل عليه ويرجح وإن كان تأويلا بالعمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء.
4- عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: (دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فقال له أبي: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المائة).
أبو برزة الأسلمي اختلف في اسمه واسم أبيه والأشهر الأصح نضلة بن عبيد أو نضلة بن عبد الله ويقال نضلة بن عائذ بالذال المعجمة مات سنة أربع وستين وقيل مات بعد ولاية ابن زياد قبل موت معاوية سنة ستين وكانت وفاته بالبصرة.
وقد تقدم أن لفظة كان تشعر عرفا بالدوام والتكرار كما يقال: كان فلان يكرم الضيوف وكان فلان يقاتل العدو إذا كان ذلك دأبه وعادته.
والألف واللام في المكتوبة للاستغراق ولهذا أجاب بذكر الصلوات كلها لأنه فهم من السائل العموم.
وقوله: (كان يصلي الهجير) فيه حذف مضاف تقديره كان يصلي صلاة الهجير وقد قدمنا قبل أن الهجير والهاجرة شدة الحر وقوته.
وإنما قيل لصلاة الظهر الأولى لأنها أول صلاة أقامها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في حديث إمامة جبريل عليه السلام.
وقوله: (حين تدحض الشمس) بفتح التاء والحاء والمراد به هاهنا زوالها واللفظة من حيث الوضع أعم من هذا وظاهر اللفظ يقتضي وقوع صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال ولابد من تأويله.
وقد اختلف أصحاب الشافعي فيما تحصل به فضيلة أول الوقت فقال بعضهم: إنما تحصل بأن يقع أول الصلاة مع أول الوقت بحيث تكون شروط الصلاة متقدمة على دخول الوقت وتكون الصلاة واقعة في أوله وقد يتمسك هذا القائل بظاهر هذا الحديث فإنه قال: يصلي حين تزول فظاهره وقوع أول الصلاة في أول جزء من الوقت عند الزوال لأن قوله: يصلي يجب حمله على يبتدئ بالصلاة فإنه لا يمكن إيقاع جميع الصلاة حين تدحض الشمس ومنهم من قال: تمتد فضيلة أول الوقت إلى نصف وقت الاختيار فإن النصف السابق من الشيء ينطلق عليه أول الوقت بالنسبة إلى المتأخر.
ومنهم من قال وهو الأعدل إنه إذا اشتغل بأسباب الصلاة عقيب دخول أول الوقت وسعى إلى المسجد وانتظر الجماعة وبالجملة: لم يشتغل بعد دخول الوقت إلا بما يتعلق بالصلاة فهو مدرك لفضيلة أول الوقت ويشهد لهذا فعل السلف والخلف ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان يشدد في هذا حتى يوقع أول تكبيرة في أول جزء من الوقت.
وقوله: والشمس حية مجاز عن بقائها بيضاء وعدم مخالطة الصفرة لها وفيه دليل على ما قدمناه من الحديث السابق من تقديمها.
وقوله: وكان يستحب أن يؤخر من العشاء يدل على استحباب التأخير قليلا لما تدل عليه لفظة من من التبعيض الذي حقيقته راجعة إلى الوقت أو الفعل المتعلق بالوقت.
وقوله: (التي تدعونها: العتمة) اختيار لتسميتها بالعشاء كما في لفظ الكتاب العزيز وقد ورد في تسميتها بالعتمة ما يقتضي الكراهة وورد أيضا في الصحيح تسميتها بالعتمة ولعله لبيان الجواز أو لعل المكروه: أن يغلب عليها اسم العتمة بحيث يكون اسم العشاء لها مهجورا أو كالمهجور.
وكراهية النوم قبلها لأنه قد يكون سببا لنسيانها أو لتأخيرها إلى خروج وقتها المختار.
وكراهة الحديث بعدها إما لأنه يؤدي إلى سهر يفضي إلى النوم عن الصبح أو إلى إيقاعها في غير وقتها المستحب أو لأن الحديث قد يقع فيه من اللغظ ما لا ينبغي ختم اليقظة به أو لغير ذلك والله أعلم.
والحديث ههنا: قد يخص بما لا يتعلق بمصلحة الدين أو إصلاح المسلمين من الأمور.
الدنيوية قد صح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه بعد العشاء) وترجم عليه البخاري باب السمر بالعلم ويستثنى منه أيضا ما تدعو الحاجة إلى الحديث فيه من الأشغال التي تتعلق بها مصلحة الإنسان.
وقوله وكان ينفتل الخ دليل على التغليس بصلاة الفجر: فإن ابتداء معرفة الإنسان لجليسه يكون مع بقاء الغبش.
وقوله وكان يقرأ بالستين إلى المائة أي بالستين من الآيات إلى المائة منها وفي ذلك مبالغة في التقدم في أول الوقت لاسيما مع ترتيل قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
وفي لفظ لمسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى»- صلاة العصر- ثم صلاها بين المغرب والعشاء.
6- وله عن عبد الله بن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر- ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا».
فيه بحثان: أحدهما: أن العلماء اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر ودليلهما هذا الحديث مع غيره وهو قوي في المقصود وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة.
وميل مالك والشافعي إلى اختيار صلاة الصبح والذين اختاروا ذلك اختلفوا في طريق الجواب عن هذا الحديث فمنهم من سلك فيه مسلك المعارضة وعورض بالحديث الذي رواه مالك من حديث أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال أمرتني عائشة: أن أكتب لها مصحفا ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}.
[البقرة: 238] فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين ثم قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين.
ووجه الاحتجاج منه: أنه عطف صلاة العصر على ال الصلاة الوسطى والمعطوف والمعطوف عليه متغايران ويقع الكلام في هذا من وجهين:
أحدهما: أنه يتعلق بمسألة أصولية وهو أن ماروى من القرآن بطريق الآحاد- إذا لم يثبت كونه قرآنا- فهل يتنزل منزلة الأخبار في العمل به؟ فيه خلاف بين الأصوليين والمنقول عن أبي حنيفة: أنه يتنزل منزلة الأخبار في العمل به ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة فصيام ثلاثة أيام متتابعات والذي اختاره خلاف ذلك وقالوا: لا سبيل إلى إثبات كونه قرأنا بطريق الآحاد ولا إلى اثبات كونه خبرا لأنه لم يرو على أنه خبر.
الثاني: احتمال اللفظ للتأويل وأن يكون ذلك كالعطف في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم
فقد وجد العطف هاهنا مع اتحاد الشخص وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب.
وربما سلك بعض من رجح أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح: طريقة أخرى وهو ما يقتضيه قرينة قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} من كونها الصبح الذي فيه القنوت وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن القنوت لفظ مشترك يطلق على القيام وعلى السكوت وعلى الدعاء وعلى كثرة العبادة فلا يتعين حمله القنوت الذي في صلاة الصبح.
الثاني: أنه قد يعطف حكم على حكم وإن لم يجتمعا معا في محل واحد مختصين به فالقرينة ضعيفة.
وربما سلكوا طريقا أخرى وهو إيراد الأحاديث التي تدل على تأكيد أمر صلاة الفجر كقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمون ما العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ولكونهم كانوا يعلمون نفاق المنافقين بتأخرهم عن صلاة العشاء والصبح.
وهذا معارض بالتأكيدات الواردة في صلاة العصر كقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة» وكقوله: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» وقد حمل قوله عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [قّ: 39] على صلاة الصبح والعصر بل نزيد فنقول: قد ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر ما لا نعلمه ورد في صلاة العصر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».
وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك وأشق الصلوات: صلاة الصبح لأنها تأتي في حال النوم والغفلة وقد قيل: إن ألذ النوم إغفاءة الفجر فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار مع النص على أنها العصر وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر فالواجب اتباع النص فيها.
وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها وسطى من حيث العدد وهذا عليه أمران أحدهما: أن الوسطى لا يتعين أن تكون من حيث العدد فيجوز أن تكون من حيث الفضل كما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي عدولا الثاني: أنه إذا كان من حيث العدد فلابد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط وهذا يقع فيه التعارض فمن يذهب إلى أنها الصبح يقول: سبقتها المغرب والعشاء ليلا وبعدها الظهر والعصر نهارا فكانت هي الوسطى ومن يقول هي المغرب يقول: سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح فكانت المغرب هي وسطى ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى.
وعلى كل حال: فأقوى ما ذكرناه: حديث العطف الذي صدرنا به ومع ذلك: فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها العصر والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث: أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف والواجب على الناظر المحقق: أن يزن الظنون ويعمل بالأرجح منها.
البحث الثاني: قوله: «ثم صلاها بين المغرب والعشاء» يحتمل أمرين.
أحدهما: أن يكون التقدير: فصلاها بين وقت المغرب ووقت العشاء.
والثاني: أن يكون التقدير: فصلاها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء وعلى هذا التقدير: يكون الحديث دالا على أن ترتيب الفوائت غير واجب لأنه يكون صلاها- أعني العصر الفائتة- بعد صلاة المغرب الحاضرة وذلك لا يراه من يوجب الترتيب إلا أن هذا الاستدلال يتوقف على دليل يرجح هذا التقدير- أعني قولنا: بين صلاة المغرب وصلاة العشاء- على التقدير الأول- أعني قولنا: بين وقت المغرب ووقت العشاء- فإن وجد دليل على هذا الترجيح تم الاستدلال وإلاوقع الإحمال.
وفي هذا الترجيح- الذي أشرنا إليه- مجال للنظر على حسب قواعد علم العربية والبيان وقد ورد التصريح بما يقتضي الترجيح للتقدير الأول وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعصر وصلى بعدها المغرب» وهو حديث صحيح فلا يلتفت إلى غيره من الاحتمالات والترجيحات والله أعلم.
وحديث ابن مسعود الآتي عقيب هذا الحديث: يدل على أن الصلاة الوسطى: صلاة العصر أيضا كما في الحديث.
وقوله فيه: (حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت) وقت الاصفرار: وقت الكراهة ويكون وقت الاختيار خارجا ولا تؤخر الصلاة عن وقت الاختيار فقد ورد أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] والمراد بذلك: أنه لو كانت الآية نزلت لأقيمت الصلاة في حالة الخوف على ما اقتضته الآية.
وقوله: (حتى اصفرت الشمس) قد يتوهم منه مخالفة لما في الحديث الأول من صلاتها بين المغرب والعشاء وليس كذلك بل الحبس انتهى إلى هذا الوقت ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب كما في الحديث الأول وقد يكون ذلك الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتض لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب.
وفي الحديث: دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا ولعل قائلا يقول: فيه متمسك لعدم رواية الحديث بالمعنى فإن ابن مسعود تردد بين قوله: «ملأ الله» أو «حشا الله» ولم يقتصر على أحد اللفظين مع تقاربهما في المعنى.
وجوابه: أن بينهما تفاوتا فإن قوله: «حشا الله» يقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لا يقتضيه «ملأ».
وقد قيل: إن شرط الرواية بالمعنى: أن يكون اللفظان مترادفين لا ينقص أحدهما عن.
الآخر على أنه وإن جوزنا بالمعنى فلا شك أن رواية اللفظ أولى فقد يكون ابن مسعود تحرى لطلب الأفضل.
7- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله رقد النساء والصبيان فخرج ورأسه يقطر يقول: «لولا أن أشق على أمتي- أو على الناس- لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة».
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكابر الصحابة وعلمائهم كان يقال له البحر لسعة علمه مات بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير وولد قبل الهجرة بثلاث سنين في قول الواقدي.
وفي الحديث مباحث:
الأول: يقال عتم الليل يعتم- بكسر التاء- إذا أظلم والعتمة: الظلمة وقيل: إنها اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق نقل ذلك عن الخليل وقوله: أعتم أي دخل في العتمة كما يقال: أصبح وأمسى وأظهر قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]- إلى قوله-: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18].
الثاني: اختلف الناس في كراهية تسمية العشاء بالعتمة فمنهم من أجازه واستدل بهذا الحديث وفي الاستدلال به نظر فإن قوله أعتم أي دخل في وقت العتمة والمراد: صلى فيه ولا يلزم من ذلك أن يكون سمى العشاء عتمة وأصح منه: الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح» ومنهم من كره ذلك قال الشافعي وأحب أن لا تسمى صلاة العشاء بالعتمة ومستنده هذا الحديث الصحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل» أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام وعتمة الليل: ظلمته كما قدمناه.
وهذا الحديث يدل على هذا المقصود من وجوه أحدها: صيغة النهي والثاني: ما في قوله تغلبنكم فإن فيه تنفيرا عن هذه التسمية فإن النفوس تأنف من الغلبة والثالث: إضافة الصلاة إليهم في قوله: «على اسم صلاتكم» فإن فيه زيادة ألا ترى أن لو قلنا: لا تغلبن على مالك: كان أشد تنفيرا من قولنا: لا تغلبن على مال أو على المال؟ لدلالة الإضافة على الاختصاص به.
ولعل الأقرب: أن تجوز هذه التسمية ويكون الأولى تركها وقد قدمنا الفرق بين كون الأولى.
ترك الشيء وبين كونه مكروها أما الجواز: فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم واما عدم الأولوية: فللحديث المذكور ولفظ الشافعي- وهو قوله لا أحب- أقرب إلى ما ذكرناه من قول من قال من أصحابه ويكره أن يقال لها العتمة.
أو يقول: المنهي عنه إنما هو الغلبة على الاسم وذلك بأن يستعمل دائما أو أكثريا ولا يناقضه أن يستعمل قليلا فيكون الحديث من باب استعماله قليلا أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما العتمة والصبح» ويكون حديث ابن عمر محمولا على أن تسمى بذلك الاسم غالبا أو دائما.
الثالث: في الحديث دليل على أن الأولى: تأخير العشاء وقد قدمنا اختلاف العلماء فيه ووجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس» الخ وفيه دليل على أن المطلوب تأخيرها لولا المشقة.
الرابع: قد حكينا أن العتمة اسم لثلث الليل بعد غيبوبة الشفق فلا ينبغي أن يحمل قوله أعتم على أول أجزاء هذا الوقت فإن أجزائه: بعد غيبوبة الشفق ولا يجوز تقديم الصلاة على ذلك الوقت وإنما ينبغي أن يحمل على آخره أو ما يقارب ذلك فيكون ذلك مخالفا للعادة وسببا لقول عمر رضي الله عنه رقد النساء والصبيان.
الخامس: قد كنا قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» أنه استدل بذلك على أن الأمر للوجوب فلك أن تنظر: هل يتساوى هذا اللفظ مع ذلك في الدلالة أم لا؟.
فأقول: لقائل أن يقول: لا يتساوى مطلقا فإن وجه الدليل ثم: أن كلمة لولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره فيقتضي ذلك انتفاء الأمر لوجود المشقة والأمر المنفي ليس أمر الاستحباب لثبوت الاستحباب فيكون المنتفي هو أمر الوجوب فثبت أن الأمر المطلق للوجوب فإذا استعملنا هذا الدليل في هذا المكان وقلنا: إن الأمر المنفي ليس أمر الاستحباب- لثبوت الاستحباب- توجه المنع هاهنا عند من يرى أن تقديم العشاء أفضل بالدلائل الدالة على ذلك اللهم إلا أن يضم إلى الاستدلال: الدلائل الخارجة الدالة على استحباب التأخير فيترجح على الدلائل المقتضية للتقديم ويجعل ذلك مقدمة ويكون المجموع دليلا على أن الأمر للوجوب فحينئذ يتم ذلك بهذه الضميمة.
السادس: في الحديث دليل على تنبيه الأكابر: إما لاحتمال غفلة أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه لقول عمر رقد النساء والصبيان.
السابع: يحتمل أن يكون قوله رقد النساء والصبيان راجعا إلى من حضر المسجد منهم.
لقلة احتمالهم المشقة في السهر فيرجع ذلك إلى أنهم كانوا يحضرون المسجد لصلاة الجماعة ويحتمل أن يكون راجعا إلى من خلفه المصلون في البيوت من النساء والصبيان ويكون قوله رقد النساء إشفاقا عليهم من طول الانتظار.
8- عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء» وعن ابن عمر نحوه.
لا ينبغي حمل الألف واللام في الصلاة على الاستغراق ولا على تعريف الماهية بل ينبغي أن تحمل على المغرب لقوله: «فابدأوا بالعشاء» وذلك يخرج صلاة النهار ويبين أنها غير مقصودة ويبقى التردد بين المغرب والعشاء فيترجح حمله على المغرب لما ورد في بعض الروايات: «إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدأوا به قبل أن تصلوا» وهو صحيح وكذلك أيضا صح: «فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب» والحديث يفسر بعضه بعضا.
والظاهرية أخذوا بظاهر الحديث في تقديم الطعام على الصلاة وزادوا- فيما نقل عنهم- فقالوا: إن صلى فصلاته باطلة.
وأما أهل القياس والنظر فإنهم نظروا إلى المعنى وفهموا: أن العلة التشويش لأجل التشوف إلى الطعام وقد أوضحته تلك الرواية التي ذكرناها وهي قوله: «وأحدكم صائم» فتتبعوا هذا المعنى فحيث حصل التشوف المؤدي إلى عدم الحضور في الصلاة قدموا الطعام واقتصروا أيضا على مقدار ما يكسر سورة الجوع ونقل عن مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا.
واستدل بالحديث على أن وقت المغرب موسع فإن أريد به مطلق التوسعة فصحيح لكن ليس بمحل الخلاف المشهور وإن أريدا التوسعة إلى مغيب الشفق ففي الاستدلال نظر لأن بعض من ضيق وقت المغرب جعله مقدرا بزمان يدخل في مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع فعلى هذا: لا يلزم أن لا يكون وقت المغرب موسعا إلى غروب الشفق.
على أن الصحيح الذي نذهب إليه: أن وقتها موسع إلى غروب الشفق وإنما الكلام في وجه هذا الاستدلال من هذا الحديث.
وقد استدل به أيضا على أن صلاة الجماعة ليست فرضا على الأعيان في كل حال وهذا صحيح إن أريد به: أن حضور الطعام- مع التشوف إليه- عذر ترك الجماعة وإن أريد به الاستدلال عل أنها ليست بفرض من غير عذر لم يصح ذلك.
وفي الحديث: دليل على فضيلة تقديم حضور القلب في الصلاة على فضيلة أو الوقت فإنهما لما تزاحما قدم صاحب الشرع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت والمتشوفون إلى المعنى أيضا قد لايقصرون الحكم على حضور الطعام بل يقولون به عند وجود المعنى وهو التشوف إلى الطعام.
والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر فإما أن يكون متيسر الحضور عن قريب حتى يكون كالحاضر أولا؟ فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون حكمه حكم الحاضر وإن كان الثاني وهو ما يتراخى حضوره: فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر فإن حضور الطعام يوجب زيادة تشوف وتطلع إليه وهذه الزيادة يمكن أن يكون الشارع اعتبرها في تقديم الطعام على الصلاة فلا ينبغي أن يلحق به ما لا يساويها للقاعدة الأصولية إن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يلغ.
9- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان».
هذا الحديث أدخل في العموم من الحديث الأول أعني بالنسبة إلى لفظ الصلاة والنظر إلى المعنى يقتضي التعميم وهو الأليق بمذهب الظاهرية وقد قدمنا ما يتعلق بحضور الطعام.
و(الأخبثان) الغائظ والبول وقد ورد مصرحا به في بعض الأحاديث ومدافعة الأخبثين إما أن تؤدي إلى الإخلال بركن أو شرط أو لا فإن أدى إلى ذلك امتنع دخول الصلاة معه وإن دخل واختل الركن أو الشرط: فسدت بذلك الاختلال وإن لم يؤد إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة.
ونقل عن مالك: أن ذلك مؤثر في الصلاة بشرط شغله عنه وقال: يعيد في الوقت وبعده وتأوله بعض أصحابه على أنه إن شغله حتى إنه لا يدري كيف صلى فهو الذي يعيد قبل وبعد وأما إن شغله شغلا خفيفا لم يمنعه من إقامة حدودها وصلى ضاما بين وركيه فهو الذي يعيد في الوقت.
وقال القاضي عياض: وكلهم مجمعون على أن من بلغ به ما لا يعقل به صلاته ولا يضبط حدودها: أنه لا يجوز ولا يحل له الدخول كذلك في الصلاة وأنه يقطع صلاته إن أصابه ذلك فيها.
وهذا الذي قدمناه من التأويل وكلام القاضي عياض: فيه بعض إجمال والتحقيق: ما أشرنا إليه أولا أنه إن منع ركن أو شرط: امتنع الدخول في الصلاة معه وفسدت الصلاة باختلال الركن والشرط وإن لم يمنع من ذلك فهو مكروه إن نظر إلى المعنى أو ممتنع إن نظر إلى ظاهر النهي ولا يقتضي ذلك الإعادة على مذهب الشافعي.
وأما ما ذكر من التأويل أنه لا يدري كيف صلى أو ما قال القاضي عياض أن من بلغ به ما لا يعقل صلاته فإن أريد بذلك الشك في شيء من الأركان فحكمه حكم من شك في ذلك بغير هذا السبب وهو البناء على اليقين وإن أريد به أنه يذهب الخشوع بالكلية فحطمه حكم من صلى بغير خشوع ومذهب جمهور الأمة أن ذلك لا يبطل الصلاة.
وقول القاضي ولايضبط حدودها أن أريد به أنه لا يفعلها كما وجب عليه فهو ما ذكرناه مبينا وإن أريد به أنه لا يستحضرها فإن أوقع ذلك شكا في فعلها فحكمه حكم الشاك في الإتيان بالركن أو الإخلال بالشرط من غير هذه الجهة وإن أريد به غير ذلك من ذهاب الخشوع فقد بيناه أيضا.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو بالنسبة إلى إعادة الصلاة وأما بالنسبة إلى جواز الدخول فيها فقد يقال أنه لا يجوز له أن يدخل في صلاة لا يتمكن فيها من تذكر إقامة أركانها وشرائطها.
وأما ما أشار إليه بعضهم من امتناع الصلاة مع مدافعة الأخبثين من جهة إن خروج النجاسة عن مقرها يجعلها كالبارزة ويوجب انتقاض الطهارة وتحريم الدخول في الصلاة من غير التأويل الذي قدمنا فهو عندي بعيد لأنه إحداث سبب آخر في انتقاض الطهارة من غير دليل صريح فيه فإن إسناده إلى هذا الحديث فليس بصريح في أن السبب ما ذكره وإنما غايته أنه مناسب أو محتمل والله أعلم.
10- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب).
11- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس».
في الحديث الأول: رد على الروافض فيما يدعونه من المباينة بين أهل البيت وأكابر الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله: (نهى عن الصلاة بعد الصبح) أي بعد صلاة الصبح وبعد العصر أي بعد صلاة العصر فإن الأوقات المكروهة على قسمين:
منها: ما تتعلق الكراهة فيه بالفعل بمعنى أنه إن تأخر الفعل لم تكره الصلاة قبله وإن تقدم في أول الوقت كرهت وذلك في صلاة الصبح وصلاة العصر وعلى هذا يختلف وقت الكراهة في الطول والقصر.
ومنها: ما تتعلق فيه الكراهة في الوقت كطلوع الشمس إلى الارتفاع ووقت الاستواء ولا يحسن أن يكون الحكم في هذا الحديث معلقا بالوقت لأنه لابد من أداء صلاة الصبح وصلاة العصر فتعين أن يكون المراد بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر.
وهذا الحديث معمول به عند فقهاء الأمصار وعن بعض المتقدمين والظاهرية فيه خلاف من بعض الوجوه وصيغة النفي إذا دخلت على فعل اللفظ صاحب الشرع فالأول حملها على نفي الفعل الشرعي لا على نفي الفعل الوجودي فيكون قوله: «لا صلاة بعد الصبح», نفيا للصلاة الشرعية لا الحسية وإنما قلنا ذلك لأن الظاهر إن الشارع يطلق ألفاظه على عرفه وهو الشريعي.
وأيضا فإنا إذا حملناه على الفعل الحسي وهو غير منتف احتجنا إلى إضمار لتصحيح اللفظ وهو المسمى بدلالة الاقتضاء ويبقى النظر في أن اللفظ يكون عاما أو مجملا أو ظاهرا في بعض المحامل أما إذا حملناه على الحقيقة الشرعية لم نحتج إلى إضمار فكان أولى.
ومن هذا البحث يطلع على كلام الفقهاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي» فإنك إذا حملته على الحقيقة الشرعية لم تحتج إلى إضمار فإنه يكون نفيا للنكاح الشرعي وإن حملته على الحقيقة الحسية وهي غير منتفية عند عدم الولي حسا احتجت إلى إضمار فحينئذ يضمر بعضهم الصحة وبعضهم الكمال وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل».
وأما حديث أبي سعيد الخدري وهو أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان وخدرة من الأنصار فالكلام عليه تقدم.
وفي هذا الحديث زيادة على الأول فإنه مد الكراهة إلى ارتفاع الشمس وليس المراد مطلق الارتفاع عن الأفق بل الارتفاع الذي تزول عنده صفرة الشمس أو حمرتها وهو مقدر بقدر رمح أو رمحين.
وقوله لا صلاة في الحديثين عام في كل صلاة وخصه الشافعي ومالك بالنوافل ولم يقولا به في الفرائض الفوائت وأباحاها في سائر الأوقات وأبو حنيفة يقول: بالامتناع وهو أدخل في العموم إلا أنه قد يعارض بقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» وكونه جعل ذلك وقتا لها وفي رواية: «لا وقت لها إلا ذلك» إلا أن بين الحديثين عموما وخصوصا من وجه فحديث النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر خاص في الوقت عام في الصلاة وحديث النوم والنسيان خاص في الصلاة الفائتة عام في الوقت فكل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر عام من وجه وخاص من وجه فليعلم ذلك.
[كلام المستملي].
قال المصنف رحمه الله: وفي الباب عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وابن العاص وأبي هريرة وسمرة بن جندب وسلمة بن الأكوع وزيد بن ثابت ومعاذ بن عفراء وكعب بن مرة وأبي أمامة الباهلي وعمرو بن عبسة السلمي وعائشة رضي الله عنهم والصنابحي ولم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما علي فهو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين أبو الحسن واسم أبيه أبي طالب عبد مناف وقيل اسمه كنيته وعلي رضي الله عنه ذو الفضائل الجمة التي لا تخفى قيل: أسلم وهو ابن ثلاثة عشرة أو اثنتي عشرة أو خمسة عشرة أو ستة عشرة أو عشرة أو ثمان أقوال وقتل رضي الله عنه بالكوفة سنة أربعين من الهجرة في رمضان.
وأما عبد الله بن مسعود بن شمخ فهو أبو عبد الرحمن أحد علماء الصحابة وأكابرهم مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
وأما عبد الله بن عمر فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن مرة العدوي ورياح في نسبه بكسر الراء وبعدها ياء آخر الحروف ورزاح بفتح الراء المهملة بعدها زاي مفتوحة وتوفي رحمه الله في سنة ثلاث وسبعين.
وأما عبد الله بن عمرو فهو أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن وقيل: أبو نصير بضم.
النون وفتح الصاد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم ابن سعيد بضم السين وفتح العين ابن سهم السهمي أحد حفاظ الصحابة للحديث والمكثرين فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: أنه مات ليالي الحرة وكانت الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وقيل مات سنة ثلاث وسبعين وقيل: غيره.
وأما أبو هريرة: فقد تقدم الكلام عليه.
وأما سمرة: فأبو عبد الرحمن وقيل: أبو عبد الله أو أبو سليمان أو أبو سعيد سمرة بن جندب بضم الدال وقد يقال: بفتحها ابن هلال فزاري حليف الأنصار قاله الواقدي توفي بالبصرة في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين.
وأما سلمة بن الأكوع: فهو سلمة بن عمرو بن الأكوع منسوب إلى جده الأكوع سنان بن عبد الله وسلمة أسلم يكنى أبا مسلم وقيل: أبا إياس وقيل: أبا عامر أحد شجعان الصحابة وفضلائهم مات سنة أربع وسبعين وهو ابن ثمانين سنة.
وأما زيد بن ثابت: فهو أبو خارجة زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد أنصاري نجاري وقيل: يكنى أبا سعيد وقيل: أبا عبد الرحمن يقال: أنه كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: ابن إحدى عشرة سنة وكان رضي الله عنه من أكابر الصحابة متقدما في علم الفرائض وقيل: مات سنة خمس وأربعين وقيل: اثنتين وقيل: ثلاث وقيل: غير ذلك.
وأما معاذ بن عفراء: فهو معاذ بن الحرث بن رفاعة بن سواد في قول ابن إسحاق وقال ابن هشام: هو معاذ بن الحرث بن عفراء بن الحرث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار وقال موسى بن عقبة معاذ بن الحرث بن رفاعة بن الحارث.
وأما كعب بن مرة: فبهزي سلمى- فيما قيل مات بالشام سنة تسع وخمسين وقيل غيره.
وأما أبو أمامة الباهلي: فاسمه صدي بن عجلان وصدي- بضم الصاد المهملة وفتح الدال وتشديد الياء- من المكثرين في الرواية مات بالشام سنة إحدى وثمانين وقيل: سنة ست وثمانين وهو آخر من مات بالشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قول بعضهم.
وأما عمرو بن عبسة فهو أبو نجيح ويقال: أبو شعيب عمرو بن عبسة بفتح العين والباء معا والباء تلي العين ابن عامر بن خالد سلمي لقي النبي صلى الله عليه وسلم قديما في أول الإسلام وروي عنه أنه قال: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام ثم لقيه بعد الهجرة.
وأما عائشة رضي الله عنها: فقد تقدم الكلام في أمرها.
وأما الصنابحي: فهو عبد الرحمن بن عسيلة منسوب إلى قبيلة من اليمن كنيته.
أبو عبد الله كان مسلما على عهد رسل الله صلى الله عليه وسلم وقصده فلما انتهى إلى الجحفة لقيه الخبر بموته صلى الله عليه وسلم وكان فاضلا.
12- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» قال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب.
حديث عمر فيه دليل على جواز سبب المشركين لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على ذلك لم يعين في الحديث لفظ السبب فينبغي مع إطلاقه أن يحمل على ما ليس بفحش.
وقوله يا رسول الله ما كدت أصلي العصر يقتضي أنه صلاها قبل الغروب لأن النفي إذا دخل على كاد تقتضي وقوع الفعل في الأكثر كما في قوله عز وجل: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وكذا في الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» قيل: في هذا القسم إشفاق منه صلى الله عليه وسلم على من تركها وتحقيق هذا: أن القسم تأكيد للمقسم عليه وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسم عليه حتى كأنه لا يعتقد وقوعه فأقسم على وقوعه وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك وهو مقتض للإشفاق منه أو ما يقارب هذا المعنى.
وفي الحديث دليل على عدم كراهية قول القائل: ما صلينا خلاف ما يتوهمه قوم من الناس وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة لشغله بالقتال كما ورد مصرحا به في حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى» فتمسك به بعض المتقدمين في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن والفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف وهذا الحديث ورد في غزوة الخندق وصلاة الخوف فيما قيل: شرعت في غزوة ذات الرقاع وهي بعد ذلك ومن الناس من سلك طريقا آخر وهو أن الشغل إن أوجب النسيان فالترك للنسيان وربما ادعي الظهور في الدلالة على النسيان وليس كذلك بل الظاهر: تعليق الحكم المذكور لفظا وهو الشغل.
وقوله: (فقمنا إلى بطحان) اسم موضع يقوله المحدثون بضم الباء وسكون الطاء وذكر غيرهم في الفتح في الباء والكسر في الطاء دون الضم.
وقوله فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها قد يشعر بصلاتهم معه صلى الله عليه وسلم جماعة فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة.
وقوله: «فصلى العصر» فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء وهو واجب في القليل من الفوائت عند مالك وهي ما دون الخمس وفي الخمس خلاف ويستحب عند الشافعي مطلقا فإذا ضم إلى هذا الحديث الدليل على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق: لم يكن في هذا الحديث دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على المختار عند الأصوليين.
وإن ضم إلى هذا الحديث الدليل على تضييق وقت المغرب: كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت لأنه لو لم يجب لم تخرج الحاضرة عن وقتها لفعل ما ليس بواجب فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب: تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر في امتداد وقت المغرب أو على القول بأن الفعل للوجوب.