.باب الحيض:
1- عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: «لا إن ذلك عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي».
وفي رواية: «وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة: فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي».
الكلام على هذا الحديث عليه من وجوه:
أحدها: يقال: حاضت المرأة وتحيضت تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا- إذا سال الدم منها في نوبة معلومة وإذا استمر من غير نوبة قيل: استحيضت فيه مستحاضة ونقل الهروي عن ابن عرفة أنه قال: المحيض والحيض: اجتماع الدم إلى ذلك المكان ومنه سمى الحوض حوضا لاجتماع الماء فيه.
قال الفارسي في مجمعه- بعدما نقل ما ذكرناه- وهذا زلل ظاهر لأن الحوض من ذوات الواو يقال: حضت أحوض أي اتخذت حوضا واستحوض الماء: إذا اجتمع وسميت الحائض حائضا عند سيلان الدم منها لا عند اجتماع الدم في رحمها وكذلك المستحاضة تسمى بذلك عند استمرار السيلان بها فإذا أخذ الحيض من الحوض خطأ لفظا ومعنى فلست أدري كيف وقع؟
وما ذكره من جهة المعنى: فليس بالقاطع لأن تلك الحالة ليس يمتنع أن يطلق عليها لفظ الاجتماع لاسيما في بعض الأحوال.
الثاني: أبو حبيش بضم الحاء المهملة بعدها باء ثانية الحروف مفتوحة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم شين معجمة وهو أبو حبيش المطلب بن أسد بن عبد العزى ووقع في أكثر نسخ مسلم عبد المطلب وذلك غلط عندهم والصواب المطلب كما ذكرنا.
الثالث: قولها: (استحاض) قد تقدم معنى الاستحاضة فيقال منه: استحيضت المرأة مبينا للمفعول ولم يبن هذا الفعل للفاعل كما في قولهم نفست المرأة ونتجت الناقة وأصل الكلمة: من الحيض والزوائد التي لحقتها للمبالغة كما يقال: قر في المكان ثم يزاد للمبالغة فيقال: استقر ويقال: أعشب المكان ثم يبالغ فيه فيقال: اعشوشب وكثيرا ما تجيء الزوائد لهذا المعنى.
الرابع: الطهارة تطلق بإزاء النظافة وهو الوضع اللغوي وتطلق بإزاء استعمال المطهر فيقال: الوضوء طهارة صغرى والغسل طهارة كبرى وتطلق ويراد بها: الحكم الشرعي المرتب على استعمال المطهر فيقال لمن ارتفع عنه مانع الحدث: هو على طهارة ولمن لم يرتفع عنه المانع: هو على غير طهارة.
فإذا ثبت هذان فنقول: قولها: (فلا أطهر) يحمل على الوضع اللغوي وكنت باللفظة عن عدم النظافة الدم لأن النساء لم يكن يستعملن المطهر في ذلك الوقت ولا هي أيضا عالمة بالحكم الشرعي فإنها جاءت تسأل عنه فتعين حمله على الوضع اللغوي ثم حقيقته: استمرار الدم وعليه حمله بعضهم ويمكن حمله على المبالغة ومجاز كلام العرب لكثرة تواليه وقرب بعضه من بعض.
الخامس: قولها: (أفأدع الصلاة؟) سؤال عن استمرار حكم الحيض في حالة دوام الدم وإزالته وهو كلام من قرر عنده: أن الحائض ممنوعة من الصلاة.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا إنما ذلك عرق» فيه دليل على أن الصلاة لا يتركها من غلبه الدم من جرح أو انبثاق عرق كما فعل عمر رضي الله عنه حيث صلى وجرحه يثعب دما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذلك عرق» ظاهره: انبثاق الدم من عرق وقد جاء في الحديث: «عرق وانفجر» ويحتمل أن يكون من مجاز التشبيه إن كان سبب الاستحاضة كثرة مادة الدم وخروجه من مجاري الحيض المعتادة.
السابع: في الحديث دليل على أن الحائض تترك الصلاة من غير قضاء وهو كالإجماع من الخلف والسلف في تركها وعدم وجوب القضاء ولم يخالف في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج نعم استحب بعض السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة: أن تتوضأ وتستقبل القبلة وتذكر الله عز وجل وأنكره بعضهم.
الثامن: قوله صلى الله عليه وسلم: «قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها» رد إلى أيام العادة.
والمستحاضة إما مبتدأة وإما معتادة وكل منهما إما مميزة أو غير مميزة فهذه أربعة والحديث قد دل بلفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة لقوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها» وهذا يقتضي أنها كانت لها أيام تحيض فيها وليس في هذا اللفظ الذي في هذه الرواية ما يدل على أنها كانت مميزة أو غير مميزة فإن ثبت في هذا الحديث رواية أخرى تدل على.
التمييز ليس لها معارض فذاك وإن لم يثبت فقد يستدل بهذه الرواية من يرى الرد إلى أيام العادة سواء كانت مميزة أو غير مميزة وهو اختيار أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.
والتمسك به ينبني على قاعدة أصولية وهي ما يقال إن ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة عموم المقال ومثلوه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما روي لفيروز وقد أسلم على أختين «اختر أيتهما شئت» ولم يستفصله هل وقع العقد عليها مرتبا أو متقارنا؟ وكذا نقول هاهنا لما سألت هذه المرأة عن حكمها في الاستحاضة ولم يستفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كونها مميزة أو غير مميزة كان دليلا على أن هذا الحكم عام في المميزة وغيرها كما قالوا في حديث فيروز الذي اعترض به ثم يرد هاهنا أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون عالما حال الواقعة كيف وقعت فأجاب على ما علم وكذا يقال هنا: يجوز أن يكون علم حال الواقعة في التمييز أو عدمه.
وقوله في رواية: «وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» اختار بعضهم في قوله: «وليس بالحيضة» كسر الحاء أي الحالة المألوفة المعتادة والحيضة بالفتح المرة من الحيض.
وقوله: «فإذا أقبلت» تعليق الحكم بالإقبال والإدبار فلابد أن يكون معلوما لها بعلامة تعرفها فإن كانت مميزة وردت إلى التمييز فإقبالها بدء الدم الأسود وإدبارها إدبار ما هو بصفة الحيض وإن كانت معتادة وردت إلى العادة فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة وإدبارها انقضاء أيام العادة.
وقد ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذه ما يقتضي الرد إلى التمييز وقالوا: إن حديثها في المميزة وحمل قوله: «فإذا أقبلت الحيضة» على الحيضة المألوفة التي هي بصفة الدم المعتاد وأقوى الروايات في الرد إلى التمييز: الرواية التي فيها: «دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة».
وأما الرد إلى العادة: فقد ذكرناها في الرواية الأولى التي ذكرها المصنف وقد يشير إليه في هذه الرواية قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا ذهب قدرها» فالأشبه أنه يريد قدر أيامها.
وصحف بعض الطلبة هذه اللفظة فقال فإذا ذهب قذرها بالذال المعجمة المفتوحة وإنما هو بالمهملة الساكنة أي قدر وقتها والله أعلم.
وقوله: «فاغسلي عنك الدم وصلي» مشكل في ظاهره لأنه لم يذكر الغسل ولابد بعد انقضاء الحيض من الغسل.
وحمل بعضهم هذا الإشكال على أن جعل الإدبار: انقضاء أيام الحيض والاغتسال وجعل قوله: «فاغسلي عنك الدم» محمولا على دم يأتي بعد الغسل.
والجواب الصحيح: أن هذه الرواية- وإن لم يذكر فيها الغسل- فقد ذكر في رواية أخرى صحيحة فقال فيها: «واغسلي».
وفي الحديث دليل على نجاسة دم الحيض.
2- عن عائشة رضي الله عنها: «أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأمرها أن تغتسل قالت: فكانت تغتسل لكل صلاة».
أم حبيبة هذه: ابنة جحش بن رآب الأسدي أخت زينت بنت جحش وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ويقال فيها: أم حبيب وأهل السير يقولون: إن المستحاضة حمنة قال أبو عمر ابن عبد البر: والصحيح عند المحدثين: أنهما كانتا مستحاضتين جميعا ووقع في نسخ من هذا الكتاب: «فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أن تغتسل لكل صلاة» وليس في الصحيحين ولا أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما في الصحيح: «فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة» وفي كتاب مسلم عن الليث لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة وإنما هو شيء فعلته هي.
وذهب قوم إلى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة وقد ورد الأمر بالغسل لكل صلاة في رواية ابن اسحاق خارج الصحيح.
والذين لم يوجبوا الغسل لكل صلاة حملوا ذلك على مستحاضة ناسية للوقت والعدد يجوز في مثلها أن ينقطع الدم عنها في وقت كل صلاة.
واستدل بعضهم على أنه لم لا يلزمها الغسل لك لصلاة بقوله في الحديث المتقدم: «اغتسلي وصلي» نم حيث إنه يأمر بتكراره لكل صلاة ولو وجب لأمر به.
واستدل أيضا بتلك الرواية على من يقول: إن المستحاضة تجمع بين صلاتين بغسل واحد وتغتسل للصبح وحده ووجه الدليل: ما ذكره.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جنب».
4- وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض.
5- وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: هو أن اغتسال الرجل والمرأة في إناء واحد جائز وقد مر الكلام فيه.
الثاني: جواز مباشرة الحائض فوق الإزار لقولها: (فأتزر فيباشرني) واختلف الفقهاء فيما تحت الإزار وليس في هذا الحديث تصريح بمنع ولا جواز وإنما فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب على المختار.
الثالث: فيه جواز استخدام الرجل امرأته فيما خف من الشغل واقتضته العادة.
الرابع: فيه جواز مباشرة الحائض بمثل هذا الفعل من الطاهر فإن بدنها غير نجس إذا لم يلاق نجاسة.
الخامس: فيه أن المعتكف إذا أخرج رأسه من المسجد لم يفسد اعتكافه وقد يقاس عليه غيره من الأعضاء إذا لم يخرج جميع بدنه من المسجد وقد يستدل به على أن من حلف أن لا يخرج من بيت أو من غيره فخرج ببعض بدنه لم يحدث ووجه الاستدلال أن الحديث دل على أن خروج بعض البدن لا يكون كخروج كله فيما يعتبر فيه الكون في المكان المعين وإذا لم يكن خروج بعضه كخروج كله لم يحنث بذلك فإن اليمين إنما تعلقت بخروجه وحقيقته في الكل أعني كل البدن.
6- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض).
في مثل ما تقدم من طهارة بدن الحائض وما يلابسها مما لم تلحقه نجاسة وجواز ملابستها أيضا كما قلناه.
وفيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن لأن قولها: (فيقرأ القرآن) إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثمة ما يوهم منعه ولو كانت قراءة القرآن للحائض جائزة لكان هذا الوهم منتفيا أعني توهم امتناع قراءة القرآن في حجر الحائض ومذهب الشافعي الصحيح امتناع قراءة الحائض للقرآن ومشهور مذهب أصحاب مالك: جوازه.
7- عن معاذة قالت: (سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية ولكني أسأل فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة).
معاذة بنت عبد الله العدوية امرأة صلة بن أشيم بصرية أخرج لها الشيخان في صحيحيهما.
والحروري من ينسب إلى حرواء وهو موضع بظاهر الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم كثر استعماله حتى استعمل في كل خارجي ومنه قول عائشة لمعاذة: (أحرورية أنت؟) أي أخارجية وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة وإنما ذكرت ذلك أيضا لأن معاذة أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد بل صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار فقالت لها عائشة: (أحرورية أنت) فأجابتها بأن قالت لا ولكني أسأل أي أسأل سؤالا مجردا عن الإنكار والتعجب بل لطلب مجرد العلم بالحكم فأجابتها عائشة بالنص ولم تتعرض للمعنى لأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج وأقطع لمن يعارض بخلاف المعاني المناسبة فإنها عرضة للمعارضة.
والذي ذكره العلماء من المعنى في ذلك أن الصلاة تتكرر فإيجاب قضائها مفض إلى حرج ومشقة فعفى عنه بخلاف الصوم فإنه غير متكرر فلا يفضي قضاؤه إلى حرج وقد اكتفت عائشة رضي الله عنها في الاستدلال على إسقاط القضاء بكونه لم يؤمر به فيحمل ذلك على وجهين.
أحدهما: أن تكون أخذت إسقاط القضاء من سقوط الأداء ويكون مجرد سقوط الأداء دليلا على سقوط القضاء إلا أن يوجد معارض وهو الأمر بالقضاء كما في الصوم.
والثاني:- وهو الأقرب- أن يكون السبب في ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان هذا الحكم فإن الحيض يتكرر فلو وجب قضاء الصلاة فيه لوجب بيانه وحيث لم يبين دل على عدم الوجوب لاسيما وقد اقترن بذلك قرينة أخرى وهي الأمر بقضاء الصوم وتخصيص الحكم به وفي الحديث دليل لما يقوله الأصوليون من أن قول الصحابي كنا نؤمر وننهى في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم تقم الحجة به.