.باب التيمم:
1- عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم؟ فقال: «يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟» فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء, فقال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك».
عمران بن حصين بن عبيد خزاعي أبو نجيد بضم النون وفتح الجيم بعدها ياء من فقهاء الصحابة وفضلائهم صح أن الملائكة كانت تسلم عليه وقيل كان يراهم مات سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية.
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: المعتزل المنفرد عن القوم المتنحي عنهم يقال: اعتزل وانعزل وتعزل بمعنى واحد واعتزاله عن القوم استعمال للأدب والسنة في ترك جلوس الإنسان عند المصلين إذا لم يصل معهم وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه جالسا في المسجد والناس يصلون: «ما منعك أن تصلي في القوم؟» وقد روي مع الناس «ألست برجل مسلم؟» وهذا إنكار لهذه الصورة.
الثاني: قوله: «ما منعك أن تصلي في القوم؟» وقد روي: «مع القوم؟», والمعنى متقارب وإن اختلف أصل اللفظين فإن في للظرفية فكأنه جعل اجتماع القوم ظرفا خرج منه هذا الرجل ومع للمصاحبة كأنه قال: ما منعك أن تصحبهم في فعلهم؟
الثالث: قوله: (أصابتني جنابة ولا ماء) يحتمل من حيث اللفظ وجهين أحدهما: أن لا يكون عالما بمشروعية التيمم والثاني: أن يكون اعتقد أن الجنب لا يتيمم وهذا أرجح من الأول فإن مشروعية التيمم كانت سابقة على زمن إسلام عمران راوي الحديث فإنه أسلم عام خيبر ومشروعية التيمم كانت قبل ذلك في غزوة المريسيع وهي واقعة مشهورة والظاهرة علم الرجل بها لشهرتها فإذا حملناه على كون الرجل اعتقد أن الجنب لا يتيمم كما ذكر عن عمر وابن مسعود كان دليلا على أن هذا الرجل ومن شك في تيمم الجنب حملوا الملامسة المذكورة في الآية أعني قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] على غير الجماع لأنهم لو حملوها عليه لكان تيمم الجنب مأخوذا من الآية فلم يقع لهم شك في تيمم الجنب وهذا الظهور الذي ادعي إن لم يكن إسلام هذا الرجل واقعا عند نزول الآية وهذا إنما يكون في مدة تقتضي العادة بلوغها إلى عمله.
الرابع: قوله: (و لا ماء) أي موجود أو عندي أو أجده أو ما أشبه ذلك وفي حذفه بسط لعذره لما فيه من عموم النفي كأنه نفي وجود الماء بالكلية بحيث لو وجد بسبب أو سعي أو غير ذلك: لحصله فإذا نفى وجوده مطلقا كان أبلغ في النفي وأعذر له.
وقد أنكر بعض المتكلمين على النحاة تقديرهم في قولنا لا إله إلا الله لا إله لنا أو في الوجود وقال إن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا نفيت مقيدة دلت على سلب الماهية مع القيد وإذا نفيت غير مقيدة كان نفيا للحقيقة وإذا انتفت الحقيقة انتفت مع كل قيد أما إذا نفيت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر هذا أو معناه.
الخامس: الحديث دل بصريحه على أن للجنب أن يتيمم ولم يختلف فيه الفقهاء إلا أنه.
روي عن عمر وابن مسعود أنهما منعا تيمم الجنب وقيل إن بعض التابعين وافقهما وقيل رجعا عن ذلك.
وكأن سبب التردد ما أشرنا إليه من حمل الملامسة على غير الجماع مع عدم وجود دليل عندهم على جوازه والله أعلم.
2- عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.
عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة أبو اليقظان العنسي بنون بعد المهملة أحد السابقين من المهاجرين وممن عذب في ذات الله تعالى قتل- بلا خلاف- بصفين مع علي رضي الله عنهما سنة سبع وثلاثين.
والكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: يقال أجنب الرجل وجنب بالضم وجنب بالفتح وقد مر.
الثاني: قوله: «فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة» كأنه استعمال لقياس لابد فيه من تقدم العلم بمشروعية التيمم وكأنه لما رأى أن الوضوء خاص ببعض الأعضاء وكان بدله- وهو التيمم- خاصا وجب أن يكون بدل الغسل الذي يعم جميع البدن عاما لجميع البدن.
قال أبو محمد بن حزم الظاهري: في هذا الحديث إبطال القياس لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة: حكمه حكم الغسل للجنابة إذ هو بدل منه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط.
والجواب عما قال: أن الحديث دل على بطلان هذا القياس الخاص ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام والقائسون لا يعتقدون صحة كل قياس ثم في هذا القياس شيء آخر وهو أن الأصل- الذي هو الوضوء- قد ألغى فيه مساواة البدل له فإن التيمم لا يعم جميع أعضاء الوضوء فصار مساواة البدل للأصل ملغى في محل النص وذلك لا يقتضي المساواة في الفرع.
بل لقائل أن يقول: قد يكون الحديث دليلا على صحة أصل القياس فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما كان يكفي كذا وكذا» يدل على أنه لو كان فعله لكفاه وذلك دليل على صحة قولنا: لو كان.
فعله لكان مصيبا ولو كان فعله لكان قائسا للتيمم للجنابة على التيمم للوضوء على تقدير أن يكون اللمس المذكور في الآية ليس هو الجماع لأنه لو كان عند عمار هو الجماع: لكان حكم التيمم مبينا في الآية فلم يكن يحتاج إلى أن يتمرغ فإذن فعله ذلك يتضمن اعتقاد كونه ليس عاملا بالنص بل بالقياس وحكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان يكفيه التيمم على المذكورة مع ما بينا من كونه: لو فعل ذلك لفعله بالقياس عنده لا بالنص.
الثالث: في قوله: «أن تقول بيديك هكذا» استعمال القول في معنى الفعل وقد قالوا: إن العرب استعملت القول في كل فعل.
الرابع: قوله: «ثم ضرب الأرض بيديه ضربة واحدة» دليل لمن قال بالاكتفاء بضربة واحدة للوجه واليدين وإليه يرجع حقيقة مذهب مالك فإنه قال: يعيد في الوقت إذا فعل ذلك والإعادة في الوقت دليل على إجزاء الفعل إذا وقع ظاهرا.
ومذهب الشافعي: أنه لابد من ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين لحديث ورد فيه: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» إلا أنه لا يقاوم هذا الحديث في الصحة ولا يعارض مثله بمثله.
الخامس: قوله: «ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه» قدم في اللفظ مسح اليدين على مسح الوجه لكن بحرف الواو وهي لا تقتضي الترتيب هذا في هذه الرواية وفي غيرها: «ثم مسح بوجهه» بلفظة ثم وهي تقتضي الترتيب فاستدل بذلك على أن ترتيب اليدين على الوجه في الوضوء ليس بواجب لأنه ثبت ذلك في التيمم ثبت في الوضوء إذا لا قائل بالفرق.
السادس: قوله: «وظاهر كفيه» يقتضي الاكتفاء بمسح الكفين في التيمم وهو مذهب أحمد ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أن التيمم إلى المرفقين وفي حديث أبي الجهيم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم على الجدار فمسح بوجهه ويديه» فتنازعوا في أن مطلق لفظ اليد هل يدل على الكفين أو على الذراعين أو على جملة العضو إلى الإبط؟ فادعى قوم: أنه يحمل على الكفين عند الإطلاق كما في قوله عز وجل: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقد ورد في بعض روايات حديث أبي الجهيم: «أنه صلى الله عليه وسلم مسح وجهه وذراعيه» والذي في الصحيح: «ويديه».
3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام- بفتح الحاء المهملة وبعدها راء مهملة- الأنصاري السلمي- بفتح السين واللام- منسوب إلى بني سلمة- بكسر اللام- يكنى أبا عبد الله توفي سنة إحدى وستين من الهجرة وهو ابن إحدى وتسعين.
والكلام على حديثه من وجوه:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا» تعديد للفضائل التي خص بها دون سائر الأنبياء عليهم السلام وظاهره: يقتضي أن كل واحدة من هذه الخمس لم تكن لأحد قبله.
ولا يعترض على هذا بأن نوحا عليه السلام- بعد خروجه من الفلك- كان مبعوثا إلى أهل الأرض لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه وقد كان مرسلا إليهم لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن في أصل البعثة وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث وهو انحصار الناس في الموجودين لهلاك سائر الناس وأما نبينا صلى الله عليه وسلم: فعموم رسالته في أصل بعثته.
وأيضا فعموم الرسالة: يوجب قبولها عموما في الأصل والفروع وأما التوحيد وتمحيص العبادة لله عز وجل: فيجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما, فإن من الأنبياء المتقدمين عليهم السلام من قاتل غير قومه على الشرك وعبادة غير الله تعالى فلو لم يكن التوحيد لازما لهم بشرعه أو شرع غيره: لم يقاتلوا ولم يقتلوا إلا على طريقة المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين. ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة لكن على ألسنة أنبياء متعددة فثبت التكليف به لسائر الخلق وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب» الرعب: هو الوجل والخوف لتوقع نزول محظور والخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث: مقيدة بهذا القدر من الزمان ويفهم منه أمران: أحدهما: أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة والثاني: أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص ويناسبه: أن تذكر الغاية فيه.
وأيضا فإنه لو وجد لغيره في أكثر من هذه المسافة لحصل الاشتراك في الرعب في هذه المسافة وذلك ينفي الخصوصية بها.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا» المسجد: موضع السجود في الأصل ثم يطلق في العرف على المكان المبني للصلاة التي السجود منها وعلى هذا: فيمكن أن يجمل المسجد هاهنا على الوضع اللغوي أي جعلت لي الأرض كلها مسجدا أعني موضع السجود أي لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ويمكن أن تجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك فإطلاق اسمه عليها من مجاز التشبيه والذي يقرب هذا التأويل: أن الظاهر أنه إنما أريد: أنها مواضع للصلاة بجملتها ولا للسجود فقط منها لأنه لم ينقل: أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع.
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «طهورا» استدل به على أمور.
أحدها: أن الطهور هو المطهر لغيره ووجه الدليل: أنه ذكر خصوصيته بكونها طهورا أي مطهرا ولو كان الطهور هو الطاهر: لم تثبت الخصوصية فإن في طهارة الأرض عامة في حق كل الأمم.
الأمر الثاني: استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض لعموم قوله: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» والذين خصوا التيمم بالتراب: استدلوا بما جاء في الحديث الآخر: «وجعلت تربتها لنا طهورا» وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب.
واعترض على هذا بوجوه منها: منع كون التربة مرادفة للتراب وادعى أن تربة كل مكان: ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه.
ومنها: أنه مفهوم لقب أعني تعليق الحكم بالتربة ومفهوم اللقب: ضعيف عند أرباب الأصول وقالوا: لم يقل به إلا الدقاق.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا وجعل ترتبها طهورا على ما في ذلك الحديث.
وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا كما في الحديث الذي ذكره المصنف.
ومنها: أن الحديث المذكور الذي خصت فيه التربة بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «مسجدا وطهورا» فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته فالمنطوق مقدم على المفهوم.
وقد قالوا: إن المفهوم يخصص العموم فتمتنع هذه الأولوية إذا سلم المفهوم هنا وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة أعني تخصيص العموم بالمفهوم ثم عليك- بعد هذا كله- بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله.
الأمر الثالث: أخذ منه بعض المالكية: أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ولا الخبث وقال: إن الصعيد قد يسمى طهور وليس عن حدث ولا عن خبث لان التيمم لا يرفع الحدث هذا أو معناه وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب لقوله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب: أن يغسله سبعا» فقالوا طهور يستعمل إما عن حدث أو خبث ولا حدث على الإناء فيتعين أن يكون عن خبث.
فمنع هذا المجيب المالكي الحصر وقال: إن لفظة طهور تستعمل في إباحة الاستعمال كما في التراب إذا لا يرفع الحدث كما قلنا فيكون قوله: «طهور إناء أحدكم» مستعملا في إباحة استعماله أعني الإناء كما في التيمم.
وفي هذا عندي نظر فإن التيمم- وإن قلنا: إنه لا يرفع الحدث- لكنه عن حدث أي الموجب لفعله حدث وفرق بين قولنا إنه عن حدث وبين قولنا إنه لا يرفع الحدث وربما تقدم هذا أو بعضه.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: «فأيما رجل من أمتي أدركته لا صلاة فليصل» مما يستدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل» صيغة عموم فيدخل تحته من لم يجد تراب ووجد غيره من أجزاء الأرض ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم أو يقول: دل الحديث على أنه يصلي وأنا أقول بذلك فمن لم يجد ماء ولا ترابا: صلى على حسب حاله فأقول بموجب الحديث إلا أنه قد جاء في رواية أخرى: «فعنده طهوره ومسجده» والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا.
السادس: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأحلت لي الغنائم» يحتمل أن يراد به: جواز أن يتصرف فيها كيف شاء ويقسمها كما أراد كما في قوله عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ويحتمل أن يراد به: لم يحل منها شيء لغيره وأمته وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها وفي بعض الأحاديث: «وأحل لنا الخمس» أو كما قال أخرجه ابن حبان- بكسر الحاء وبعدها باء موحدة- في صحيحه.
السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» قد ترد الألف واللام للعهد كما في قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] وترد للعموم نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وترد لتعريف الحقيقة كقولهم: الرجل خير من المرأة والفرس خير من الحمار.
إذا ثبت هذا فنقول: الأقرب أنها في قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعطيت الشفاعة» للعهد وهو ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمة وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم وهي شفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيها ولا ينكرها المعتزلة والشفاعات الأخروية خمس إحداها: هذه وقد ذكرنا اختصاص الرسول بها وعدم الخلاف فيها وثانيتها: الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب وهذه قد وردت أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا أعلم الاختصاص فيها ولا عدم الاختصاص وثالثتها: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم لها وهذه أيضا قد تكون غير مختصة ورابعتها: قوم دخلوا النار فيشفع في خروجهم منها وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة وقد ورد أيضا: «الإخوان من المؤمنين يشفعون» وخامستها: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها وهذه أيضا لا تنكرها المعتزلة.
فتلخص من هذا: أن من الشفاعة منها ما علم الاختصاص به ومنها: ما علم عدم الاختصاص به ومنها: ما يحتمل الأمرين فلا تكون الألف واللام للعموم فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها هو التي صدرنا بها الأقسام الخمسة فلتكن الألف واللام للعهد وإن كان لم يتقدم ذلك على هذا الحديث فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة وتنزل على تلك الشفاعة لأنه كالمطلق حينئذ فيكفي تنزيله على فرد.
وليس لك أن تقول: لا حاجة إلى هذا التكلف إذ ليس في الحديث إلا قوله: «وأعطيت الشفاعة» وكل هذه الأقسام التي ذكرتها: قد أعطيها صلى الله عليه وسلم فليحمل اللفظ على العموم.
لأنا نقول: هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم فلفظها- وإن كان مطلقا- إلا أن ما سبق في صدر الكلام: يدل على الخصوصية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لم يعطهن أحد قبلي».
وأما قوله: «وكان النبي يبعث إلى قومه» فقد تقدم الكلام عليه في صدر الحديث والله أعلم.